الخميس، 1 ديسمبر 2016

لاهوت التحرير الإسلامي في مواجهة العلمانية المتصلبة

بقلم: د.يوسف محمد بناصر
باحث وكاتب مغربي
*****

في نقاش هادئ بيني وبين بعض الأصدقاء حول علاقة الدين بالعلمانية، خلصت إلى أن من يتبنى الفكر التنويري اليوم من المثقفين في معزل عن متابعة النقاش الدائر في مجال الفكر الديني الإسلامي بمختلف مدارسه السنية والشيعية، وما أفرزه النقاش الداخلي في سياق الفكر الإسلامي من نظريات وأفكار ورؤى تجاوزت الكثير من المضايق المفاهيمية التاريخية التي كان أهل الفكر الإسلامي متقوقعين فيها ومتوقعين حولها، مثل مفهوم الدولة والمجتمع المدني والعلمانية والعولمة والحرية الفكرية والعقدية..، وكل المفاهيم الوافدة والتي تمت توطينها داخل السياق المعرفي الاسلامي، والتي جوبهت بكثير من النقاش والتحرير والمساءلة.
لايزال الكثير من الشباب اليوم لا يفرقون بين معنى الدين والتدين، وكذلك بين المعرفة الدينية وما تعلق بها من ثقافة وممارسة اجتماعية وتاريخية وبين النص الديني، ويعتبر الكثير ممن يسم نفسه بالعلماني بأن التدين صفة قدحية لا يجب أن يوصف بها أي مثقف متنور وأن لا معنى ولا رابطة تجمع بين التنويرية والتدين.
·   سوء الفهم الكبير الذي يقع فيه الذين يصنفون أنفسهم في خانة الفكر العلماني هو عدم اطلاعهم الكافي على مدى تجدد المدرسة الإسلامية وما صاغه بعض التنويرين والباحثين من مشاريع هامة

إن التدين سمة سوسيوثقافية وأنثروبولوجية إلى الآن تؤسس لتاريخها بناء على تنقيبها في المعابد الدينية وتتبع طقوس التضحية عند الإنسان في مختلف الجغرافيات والمجتمعات من خلال البحث الدؤوب والتنقيب والمعاشرة للقوميات والمجتمعات البدائية، مما ينبه على أهمية الدين وممارساته عبر التاريخ الإنساني. كما أن الحديث عن المعنى الوجودي للدين عند الإنسان يأتي للحد من الشعور بالفراغ، وحاجة هذا الكائن الفطرية الملحة تفرض عليه البحث عن مثال أعلى يستمد منه الحكمة والقوة والأمل والعدل والأخلاق وغيرها من الفضائل والمُثل العليا.

إن الفكر العلماني الذي يتحدث عنه بعض المثقفين العرب اليوم يبقى في بنيته الفلسفية ومرجعياته متعلقا بالفهم الأولي والمتعصب للعلاقة الحاكمة والناظمة بين المؤسسات والتصرفات الشخصية والمعتقدات الاجتماعية التي يتبناها الأفراد، وقد تجاوزت مباحث الفلسفة هذا النقاش الضيق للمفاهيم، كما تجاوزه الفكر السياسي في بعض البلدان التي طورت رؤيتها للمفاهيم الفلسفية المؤثرة على النقاش العام، وأنوه بهذا الصدد بمضامين كتاب "قوة الدين في المجال العام" الذي ساهم فيه هابرماس إلى جانب بعض الفلاسفة بقراءة جادة ومتوازنة تبين دور الدين ومحوريته في الفضاء العمومي، وبطبيعة الحال لا تخفى المدرسة النقدية التي ينتمي إليها هذا الفيلسوف الألماني الفذ، كما لا يفوتني أن أشيد بالفلسفة الألمانية ومدارسها النقدية على وجه الخصوص.

 
إن سوء الفهم الكبير الذي يقع فيه الكثير من الأصدقاء الذين يصنفون أنفسهم في خانة الفكر العلماني هو عدم اطلاعهم الكافي على مدى تجدد المدرسة الإسلامية وأطروحاتها النظرية وما صاغه بعض التنويرين والباحثين من مشاريع هامة ومثيرة مثلا في المغرب وتونس والسودان وسوريا وإيران وماليزيا وفرنسا. ربما ممارسات البعض لتنزيل الفكر الإسلامي الجديد المتسم بالتنوير اليوم يجعله متورطا في الكثير من المجازفات السيئة من طرف بعض حركات الإسلام السياسي التي يغلب عليها هاجس الممارسة السياسية، بناء على خلفية دينية معاصرة أغلبها تلفيقية، وتقع أفكار أخرى منه، ضحية قرصنة وتشويه وإعادة تأويل وتصويغ تاريخي من طرف الحركات الجهادية مثل داعش والقاعدة، ولكن هذا لا يعني أن يتحيز العلماني للفكر الجزمي ولدوغمائه ضد نِتَاج المدارس الإسلامية المعاصرة ويغمطه حقه وجدية مساهماته
·         والمنكر لضرورة الإصلاح الملح سيصطدم مع واقعه قبل عقله، باعتباره ضرورة وجودية وصيرورة لا يمكن نكرانها أو التملص منها.
·          
والذين يتورطون في تفسير مغلق لعلاقة وطبيعة الدين بالمؤسسات إنما هم الدوغمائيون الفرنسيون الذين لم يستوعبوا بعد التحولات الكبيرة التي طرأت على العالم من حولهم، فهم من يعيد نقاشات الدين دائما للدائرة الأولى وبشكل مستفز وبخلفية سلفية فجة ومفضوحة، كأنهم يرفعون من جديد شعار الثورة الفرنسية: اشنقوا آخر إقطاعي أو آخر ملك بأمعاء آخر قسيس. وأنا هنا مع استيعاب الاختلافات وايجاد أرضية واقعية ومشتركة لتدبير سياسي عقلاني وراشد لواقعنا المضطرب، بكل ما يحمله هذا من مضامين فلسفية تعزز حقوق الانسان وكرامته انطلاقا من اجتهاداتنا وسياقنا الحضاري المتسم بالانفتاح.
 
والمنكر لضرورة الإصلاح الملح سيصطدم مع واقعه قبل عقله، باعتباره ضرورة وجودية وصيرورة لا يمكن نكرانها أو التملص منها. ولا يعني الوقوع تحت الحاجة الملحة الإسراع بالعمل على إعطاء كل الإجابات النهائية لكل معضلة تقف أمام تقدمنا اليوم، فبذلك نكون خرقنا سنة التحول التاريخي وفق سنن وشروط وجودية وقواعد ذاتية وموضوعية، ومن يدعي غير ذلك فهو واقع في دوغمائية بغيضة سبق لنا انتقادها.
إن المخرج من مأزقنا الوجودي، الذي ربطنا بالتخلف وورطنا في استعادة كرنفاليه مثيرة لأوجه التاريخ البئيس لتظهر بؤر استعمارية في جغرافيتنا، ولنشهد عودة قوية لنفوذ دول استعمارية لأوطننا بعد حركة تحرير مريرة منه، هو العمل على المزيد من الإبداع والتفكير الاستراتيجي بعيدا عن الانطوائية أو التعصب، وكذا بتفكيك كل الأيديولوجيات التاريخية التي تسلطت على الإنسان المسلم والعربي، والتخلص أو التخفيف ما أمكن من ثقل خلفياتنا التاريخية النكدة والنكوصية وترويض نرجسيتنا الثقافية والدينية والاجتماعية.
 
·   لو نسمح للتسلط أن يتضخم في مقابل كبح حرية التفكير والإبداع وعزل الإنسان، ستخرج الأمة من التاريخ الإنساني بلا بصمة ولا إضافات، وهو ما يتعارض مع ما دعا إليه الله الذي استخلفنا في الأرض
·          
ومن عتبات الإصلاح اليوم الابتداء بـ:
1- 
الفصل بين السلط التشريعية والتنفيذية والدينية والقضائية، والتي يجمعها الحاكم العربي في يد واحدة، مخالفا التجربة الإسلامية التاريخية وروح الشرع وتجربة المؤسسات الحديثة.

2- 
اطلاق حرية التعبير وحرية الضمير، وحق الإنسان في اعتقاد ما يشاء، فلا يلزم الناس بما لا يعتقدون فهذا لم يقل به أي عاقل بله رب العالمي، لقوله "فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍوقوله "إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُوقوله سبحانه "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ، فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْهذا الإله الحكيم دافع عن عقيدة الناس أجمعين، ولو كانت مخالفة لمقتضى الخلق وإبداعه سبحانه، ولكنه أسس للحرية الإنسانية وحرية الضمير في الاختيار، وربط العمل والاختيار العقدي بالحساب والجزاء الأخروي.
إن هذه المقالة وما تضمنته من محاولة لنقاش بعض الأفكار التي يتداولها بعض الأصدقاء في الفضاء الافتراضي وفي نقاشات الفضاء العام، لا تؤسس لنموذج معين مغلق، ولا تدعو لإعادة انتاج التجربة السياسية أو النقدية بناء على استعادة براديغم تاريخي بحد ذاته، كما أني لا أعتقد بصلاحية إعادة وضع نموذج مصاغ وتنزيله على واقعنا الإسلامي والعربي المعاصر، دون المرور بتجربة مستقلة وبناء ذواتنا وفقها ووفق سنن وشروط نهضوية تستجيب لقدراتنا وإبداعاتنا، لأن بقفزنا على الصيرورة التاريخية قد نجعل من سطوة انتصاراتنا الأسطورية، وتحيزاتنا لمخيلاتنا عن حضارتنا وأمجادها، وتعلقنا بنماذج تاريخية، والحنين الجارف للذاكرة الجماعية الشعبية كما العودة الصرامة للذاكرة العالمة لقيم السلف والتاريخ وانتعاشهما بكل تلك المخلفات والمتراكمات، نجعل منها إلها يعبد.
وكل هذه الأشياء، قد تجعلنا نتورط في عودة انتكاسية متكررة لنقط الصفر، فنسمح للتسلط بكل أنواعه ليتضخم في مقابل كبح حرية التفكير والإبداع وعزل الإنسان وتثبت الفوضى، لتخرج الأمة من التاريخ الإنساني بلا بصمة ولا إضافات، وهو ما يتعارض مع ما دعا إليه الله الذي استخلفنا في الأرض قبل أن تكرسه فلسفات الأنوار وقيمها. ويبقى النقاش ذو شجون، كما رؤيتنا للاهوت تحريرنا مفتوحة على احتمالات أخرى.




****
رابط المصدر، تدوينات يوسف محمد بناصر على موقع الجزيرة :
http://blogs.aljazeera.net/BenYosuf

الأحد، 30 أكتوبر 2016

اللفياثان الانتخابي ومتاهات السياسة بالمغرب

بقلم: د. يوسف محمد بناصر
كاتب وباحث مغربي

***
تشتغل الأحزاب السياسية المغربية على غير عادتها على انتزاع مساحات القرب من المواطنين وانتزاع أصواتهم كذلك، ببرامجها المكررة وبآلياتها الكلاسيكية وبخطاباتها التي ألفها بسطاء المجتمع كما الطبقة المثقفة والعالمة، وتبقى الأحزاب المواكبة للتطورات التقنية والمجددة لنخبها والمتبنية لخطاب حداثي معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة.
إن مقصد الأحزاب السياسية هو كسب أصوات كل الشرائح الاجتماعية، وجعلها منصتةً ومستوعبة لتفاصيل برامج سياسية يعرف الكل أن أغلبها يبقى حبراً على ورق بعد انتهاء العملية الانتخابية، بحيث لو سئل من سيتصدر الانتخابات بعد يوم من فرز الأصوات لقال إنه ينفذ برنامج الملك.
أما الجديد هذه المرة، أن الساسة أصبحوا يتموقعون بين طرفَي نقيض، بين الاستمرار في خط تكريس الآداب السلطانية وتكرار تجارب الأحزاب الإدارية والموالية للسلطة الحاكمة في البلاد، وبين التيار الإسلامي المحافظ والممانع أو اليساري المفعم بكثير من الطاقة والكثير من المثالية.
إن المواطن العادي لم يستوعب لعبة السياسة في المغرب بالشكل الذي يمكنه من فهم العلاقات المعقدة التي تجمع بين كل الأطراف التي تتنازع مناطق نفوذ ودوائر صنع القرار؛ لأنه إلى الآن يمارس مقارنات في جزئيات تخص كل فريق، ويحاسب الأحزاب على تلك التفاصيل اليومية، التي تتعلق بمعيشته وتمسّه مباشرة، أما ما راكمه المشهد السياسي المغربي من تجارب وما أصبح عرفاً سياسياً أو ثقافة تحدد كل تلك الحدود بين النظام السياسي والفاعلين وتأثير التراث السياسي التاريخي والفقهي على كيفيات تدبير المشهد عموماً ومن يتخذ القرارات المهمة والصعبة فلا ينتبه إليه.
إن الاحتكاك الحاصل اليوم بين التيارات المختلفة، وفي ظل دستور جديد دفع الثقافة السياسية وممارستها إلى أن تشهد ثنائية قطبية بين اتجاه يؤسس للإصلاح ويتبنى رؤية يختلط فيها الفكر السلفي مع تراث فكر النهضة والإصلاح وبعض تسربات الحداثة التي فرضت نفسها بشكل أو آخر مع مطامح سياسية واقتصادية واجتماعية لفئات واسعة من الشعب، وهذا مثاله حزب العدالة والتنمية، واتجاه لا يتخلف عن الأول إلا بكونه يشكل فرملة زائدة لصيرورة الإصلاح وبشروط ممنوحة ووفق رؤية لا تعبر عن مطامح الحراك الديمقراطي، وآمال الكثير من الشباب ومثاله حزب الأصالة والمعاصرة، إذن فكلاهما يرشف من عين واحدة يجمع رؤية توفيقية في تركيبة غامضة وهي السلفية والتحديثية، ويتمتع بقدرة هائلة على إنتاج خطاب تلفيقي يستغل نتائج الربيع الديمقراطي بالركوب على آمال شبابه.
إن الثنائية القطبية التي تتشكل في المملكة المغربية بين حزبين متصارعين هي متوهمة، ولا تعبر بصراحة عن نضوج الممارسة والفعل السياسي؛ لكونها لم تؤسس بعد لثقافة تدبير الاختلاف السياسي والأيديولوجي؛ حيث كشفت عن خطاب سيئ وممارسات مستهجنة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وما لم تضع بعد مختلف الأحزاب الأخرى قدمها في إحدى الجهتين بقناعة ووفق رؤية واضحة؛ ليتم تشكيل قوى ضغط وفق مشروع استراتيجي لا يرتبط بالحملة الانتخابية الظرفية، فلا يمكن الحديث عن استقطابات حقيقية، والمطلوب من الأحزاب الجدية التي تملك رصيداً نضالياً وتاريخياً وبرنامجاً سياسياً واقعياً هو وضع بوصلة تحدد تموقعها الفعلي ومدى فاعليتها في تدبير الشأن العام المغربي، ومشاركة المؤسسة الملكية في صنع خيارات واتخاذ القرارات الكبرى بدل الاكتفاء بإنجاز برنامج يومي أو تنفيذ برنامج معد مسبقاً لم يسطره الحزب، ولا يتوافق مع وعوده وحملاته الانتخابية.
اللفياثان الانتخابي هو أن يشكل المنافس السياسي من قدراته الرمزية وخطاباته سلطة معنوية تريح ضمائر الناس ويقنع ضعاف العقول بأنه يمتلك قدرات عجائبية تصلح حالهم، وتوقف بؤسهم، وتغير واقعهم اليومي للأفضل، فيقبلون التنازل عن حرياتهم وقدرتهم النقدية وملكتهم الإبداعية من أجل إتاحة الفرصة للحاكم الرمزي الذي يمثل دور المهدي المنتظر والرجل الخارق من أجل تحقيق الأحلام وفق رؤيته الخاصة وبرنامجه الإصلاحي المثالي الذي لا يقدر أحد على مواجهته أو نقده، فلا ينتبهون لتنازلاتهم ولخسارتهم إلا بعد فوات الأوان، وللأسف، هذا الاختيار يقع وفق الإرادة الجماعية المؤطرة بالأوهام وبكثير من المطامح الشخصية؛ ليستبد الزعيم بالسلطة وأثناء كل نقد أو مواجهة، يستند إلى ما راكمه من شعبية أو تاريخ نضالي، وينظر إلى محصلته الانتخابية النسبية، التي جعلته يتصدر المشهد بأنها تفويض مطلق من كافة الشعب، وأن الفئات الساكتة أو المغيبة أو المعارضة للعبة كلها، والتي لم تعبر عن صوتها، لا تملك إلا الانصياع للتي صوَّتت أو التي منحته كل هذه الشرعية التي أصبحت مشروعية.
في المغرب تلعب الطبقة المتوسطة دور سفينة الإنقاذ وتعمل الأحزاب على استمالة صوتها بأي كيفية وفقت إليها، وأما الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة الأخرى، فتلعب دوراً ثانوياً وهي غير ملتزمة سياسياً في الغالب، وكثيراً ما تقع ضحية الوعود الانتخابية لبعض الأحزاب السياسية، حتى أمست فاقدة للثقة وتنظر للوضع بترقب وتوجس، وإن شاركت فإنها تشارك باستحياء وبراغماتية لتستفيد من بعض الهبات والمكاسب الآنية.
عوداً على ذي بدء، إن الإيجابي في ظل كل الممارسات السياسية المغربية هو طول النفس الذي تتمتع به بعض الأحزاب الجديدة على غير العادة، وقدرة النظام السياسي على المناورة وعلى وضع خيارات متعددة تخدم مشروعه وتجعل سيرورة النظام مستقرة ووضعه آمناً، وترك هامش واسع للفرقاء السياسيين والفاعلين المدنيين للعمل من أجل بناء ثقافة وممارسة ديمقراطية محلية ترتبط بتاريخ الجغرافية المغربية وذاكرة الشعب وتراثه السياسي والديني.
وهذا المران يجعل التحولات السياسية الإيجابية التي يشهدها المغرب أنموذجية في ظل التعثرات والنكسات التي تعترض تجارب الأنظمة العربية الأخرى، ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أي مدى يقدر النظام المغربي على استباق الأحداث وفقه مآلاتها، ووضع الاستراتيجيات السياسية التي تخدم تطور البلد وتعزز تماسك بنية المجتمع والنظام ثم الانفتاح أكثر على الثقافات الديمقراطية العالمية بدل الاعتماد على الآداب السلطانية ونتاج المراكمة التاريخية؟
وهل تقدر الأحزاب السياسية المغربية على صناعة نخب سياسية تتبنى خطاباً مركباً يخدم أجندتها الأيديولوجية وتصوراتها الخاصة لتدبير الشأن العام وامتلاك زمام المبادرة واستقلالية قراراتها الحزبية بعيداً عن الارتهان إلى الغير؟ وكيف يمكن للنظام السياسي كما الأحزاب تعزيز ثقافة سياسية حديثة ودعم النخب الشبابية الصاعدة والسماح لها للتعبير والمشاركة الفاعلة، وتقوية قدرتها على صنع التغيير والمشاركة فيه بثقة وكرامة وحرية، وجعلها قادرة على المنافسة على مراكز القرار بعيداً عن الاستقطاب السلبي والاحتواء في مؤسسات صورية؟
وتبقى التجربة الديمقراطية المغربية ناشئة تتأثر بالأوضاع النفسية والأعراف التاريخية الاجتماعية والثقافية والسياسية للفاعلين السياسيين حتى في تفسير روح الدستور الجديد أكثر من تأثرها بمضامين الوثيقة الدستورية ذاتها، أو تأثرها بالثقافة السياسية المعاصرة ومدارسها الكبرى، مما يخلق عند الباحث والمتمعن في الخطاب والتفاعلات السياسية كثيراً من الارتباك والحيرة والترقب.
***
المصدر:
http://www.huffpostarabi.com/yosef-nasser/story_b_12684470.html

الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

التطرف يرسم صورا كاريكاتيرية عن الله والنبي



التطرف يرسم صورا كاريكاتيرية عن الله والنبي

مشاركة من صديق (إرفع صوتك) يوسف محمد بناصر:

فلسفة الاقصاء تقوم على أن المختلف أو المخالف لا مكان له في دائرة الوجود، لأن وجوده يسبب التشويش والتشكيك وسيكون صوتا مسموعا للكثيرين ومزعجا لغيره.

إن فلسفة الاغتيال عند المتطرفين تقوم على أسس أيديولوجية ونفسية لا يمكن التنبؤ بها، لأنها تبقى متوارية إلى أن تظهر مفاجئة المقربين والمتتبعين. إنها تتأسس على استراتيجية التخويف وافشاء الرعب على أوسع نطاق، وجعل أفراد المجتمع يعيدون التفكير في تفاصيل العلاقات التي تجمعهم بالكثير من أقربائهم وجيرانهم؛ لأن وباء التطرف فايروس عندما يصيب أحدهم ينمو في صمت بين الأقفاص الصدرية ويتناسل بين الأفكار السوداوية لأي كائن انساني. والذين يعانون من ثقل الدوغما المغلقة على ذاتها والمغلفة بكثير من المزايدات، مستعدون للقيام بأي شيء من أجل نصرة منطقهم ورسالتهم.
إن انتشار فلسفة الوثوقية عند المتطرفين والتزامهم بالحد الأقصى من التماهي مع مفهوم الواجب، سواء كان دينيا محضا أو أيديولوجيا صرفا، يجعل خروجهم كل لحظة بسلوكيات شاذة وبمواقف متطرفة قضية مبدئية ومسألة فيها الكثير من الاقتناع بكونهم يسطِّرون تاريخا مثاليا!

إنهم يؤمنون بكونهم يقودون الإنسانية نحو مسار يمحو كل بؤس وتيه وانحراف يمكن أن تشهده الأمم المعاصرة لسبب من الأسباب، وأنهم أمر السماء ويد القدر لتغيير كل هذه الانحرافات الطارئة على المجتمعات وتحقيق بشارة تطهير الأرض من الدنس ثم تحقيق الخلاص الفردي بالصعود إلى الجنة!

اغتيال ناهض حتّر، مثلا، مهما كانت دوافعه يبقى مأساة في قافلة المآسي التي تهب على هذه الأمة من مختلف البقاع. إن هذا الفعل الشنيع يسيء إلى الذات الإلهية أكثر مما ظن هؤلاء أن الكاتب الأردني ناهض أساء إليها. فهُم يغتالون الإنسانية والعقل ويُسخرون كل أدوات مجهوداتهم لقهر إرادة الانسان في أن يكون حرا متطلعا مستقلا ومبدعا. يوجهون رصاصاتهم لكل الضمائر الحية والقلوب المتوهجة بالإيمان المصدق بصفات الله العليا وأسمائه الحسنى.

عن الكاتب: يوسف محمد بناصر، باحث وكاتب مغربي، نشر له عدة بحوث وشارك في تأليف أكثر من كتاب. يعمل باحثا في مركز الدكتوراه جامعة السلطان مولاي سليمان بني ملال في المغرب.
**
مصدر خارجي للمقال:
http://www.irfaasawtak.com/archives/36078

السبت، 8 أكتوبر 2016

البراديغم الداعشي… عندما يتحول الإيمان إلى أعلام للقراصنة ج3.

****
بقلم: يوسف محمد بناصر
باحث وكاتب مغربي



أصبح الفكر المتطرف في السياق الحضاري الإسلامي “لاهوت تحرير” في نسخته الإسلامية بعد النسخة المسيحية، وإرهاصات هذا المشروع كانت بداياتها منذ حرب أفغانستان، رغم أنه كان موجها ضد التوسع السوفياتي إلا أنه كان يحمل بين طياته بذور الاستقلال بالقرار وفاعلية ذاتية تخرجه من دائرة التحكم إلى دائرة المبادرة والارتداد ليكون منزعه داخليا بعدما كان خارجيا/ هجوميا بعدما كان دفاعيا. وقد وقع الأمر فيما بعد في جمهوريات أسيا السوفياتية ثم بعدها بالصومال والبلقان فالعراق ثم سوريا..، وبقية الدول “الشرق-أوسطية” منتظرة على اللائحة.

إن استضافة المعسكرات والقواعد الأجنبية في مناطق جغرافية دينيا يمثل سببا تحفيزيا لنمو التطرف، وإذكاء الشعور بعودة الاستعمار للمنطقة خصوصا أنه لم يمر على استقلال أغلب دولها أقل من نصف قرن، والذاكرة لا تزال تنبض بمرارة الأحداث الماضية، مسترجعة صور الاستغلال والتدخل في مختلف شؤون المنطقة الداخلية، وما كرسته ثقافة المستعمر في المجتمع الذي كان مؤسسا على ثقافة القبيلة المتماسكة والممتدة في جغرافية غير محدودة، ليجد هذا المجتمع نفسه منكمشا، قد فتته المستعمر ليسهل فيما بعد هضمه أو توزيعه في دويلات متصارعة ليتم ابتزازها.

إن إشكالية العدل وكيفية تصريفه يمثل جزءا مهما في فلسفة الفكر السلفي الجهادي، لأن مقابله الظلم والمظلومية في بعض الأحيان، يدفع للعمل في الظلام وفي الدهاليز، ورفض كل أساليب تدبير قيمة العدالة، حتى لو كان المجتمع في قمة تمثله لقيمة العدل وتُصَرَّف فيه العدالة بمثالية، وكذا غيرها من القيم. فالوسيلة مهما ارتقت في نظرهم سواء كانت شورية أو ديمقراطية لا تحقق المقصود الذاتي للقيم المنشودة، لأنها منشودة لذاتها وفق تصور مثالي كامل، وأي وسيلة لتصريف هذه القيم إنما هي وسيلة تشويه وتحريف، فكأنهم يودون أن لا تكون هنالك وساطة بينهم وبين السماء، بل تتجلى قدرة ومشيئة السماء بذاتها وبإرادة مطلقة فلا تترك للناس خيارا للتفكير أو التدبير أو الخطأ. فهم يودون أن يروا تدخل “الله” مباشرة في الحياة الدنوية، كما تدخل في حياة أقوام لينزل عقابه أو ليوجههم بشكل مباشر[إنقاذ الأقوام السابقة وبعض معجزات الرسل أو إهلاك البعض الآخر..]، فلا وساطة بل هي حاكمية إلهية مطلقة لا حاكمية بشرية. أما القانون البشري النسبي فلا معنى له كما لا معنى للتنظيمات والتوصيفات التي يتوسلها المجتمع الإنساني للتنظيم وتحقيق القيم المتعاقد عليها فيما بينهم، فكل هذه المفاهيم ومعها المؤسسات هي طارئة تبعد المؤمن الحقيقي عن الفهم الصائب، بحسب تصورهم لمشيئة السماء التي يجب أن تتحقق. وحادثة ذو الخويصرة وقصته مع النبي الأكرم في التاريخ الإسلامي خير شاهد على أن هذه الفئة تبحث عن أفق يتجاوز التفسير الواقعي للنصوص والمفاهيم، كأنهم يقولون للنبي المرسل والمسدد بالوحي بأنهم أكثر تفسيرية للدين ومقاصده منه، متجاوزين تجربته ووساطته لينفتحوا مباشرة على مراد السماء والمعاني الذاتية للوحي. وما حدث فيما بعد من غيره من الخوارج من مناظرات وحروب ضد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب يفسر بوضوح تلك العلاقة المستشكلة بين من يستوعب الدين في جزئياته ويعقل مقاصده الكبرى وبين من يتدين بعاطفته ويرتبط بظاهرية النصوص وأحكامها فهما وتنزيلا، ويرفض التأويل وبحث مناطاتها. وهذه العلاقة المعقدة بين المفاهيم وتمثلاتها الواقعية شائكة، ولاتزال في حاجة إلى تحقيق لأنها تضع المعرفة الفقهية وأحكامها في مأزق ومساءلة دائمة.
إن تفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية الحديثة المتعلقة بالعنف الديني لا يتوقف على جمع ملخصات النشرات الإخبارية ولا تتبع ما تقدمه البرامج الحوارية من معلومات، بل الظاهرة أعقد من ذلك كله وتحتاج لمراكز بحثية تتصف بالدقة المنهجية والعلمية، لأن موضوع البحث يعد إشكالية بنيوية مركبة، يختلط فيها ما هو روحي/اجتماعي بما هو نفسي/تاريخي واقتصادي بما هو سياسي، والنفوس البشرية ليست في الأخير على طبيعة واحدة ولا على نمط معرفي مضبوط، لتتمكن المناهج والبحوث المخبرية من استيعابه، بل لابد أن تستحضر كافة المناهج وتتكامل الرؤى لتكون النتائج قريبة من رصد حقيقة هذه الظاهرة، وهذا الأمر يصعب عمل الباحثين ويجعلهم كل مرة يستأنفون عملهم لدراسة –ربما- نفس الحالة مرارا وتكرارا. وتبقى “الظاهرة الداعشية” ومثيلاتها، رغم ما سبق الإشارة إليه من صعوبات حول آلية دراستها، ظاهرة غير عصية على الفهم، فإمكانية استيعابها وفهم آلية عملها وتفكيك مرجعيتها الفكرية والعقدية ممكنة، لأنها في النهاية تبقى حركة تاريخية وتنظيما بشريا، يتقفى أثر السابقين وتبني طموحاتها وانجازاتها على سلسلة من الإخفاقات والمشاريع المعطلة تاريخيا. ويبدو أن هذه الحركات “امبريا-دينية” تبحث لها عن لحظة تغفل فيها الحداثة لتستعيد نهضتها وتقوم بإتمام مشروعها التاريخي. ليبقى إيمان الناس وسلامتهم الروحية عرضة للقرصنة كل مرة من طرفهم، فهم يجعلون شعاراتهم البراقة حول العدل والرخاء والسعادة الأبدية تعلو أعلامهم، ويعاد مصادرة الإيمان وتقديمه بصور “بئيسة” للعموم وفق رؤيتهم للوجود، وكيف لا تكون لمفهوم الإيمان كل هذه القيمة والبريق وهو يعتبر قنطرة الخلاص الأبدي ! من يستحوذ عليه يقطع الطريق على البقية الأخرى، ليقع بعض السذج ضحية إيمانهم وتتيه البقية في بحور القلق والريبة وغياب المعنى.
///

نشر المقال بمنبر الحرية بتاريخ:4 أكتوبر/تشرين الأول 2016

http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/9547

الخميس، 22 سبتمبر 2016

المغرب بين أيديولوجية الانسجام والمجتمع المختل

بقلم: يوسف محمد بناصر
باحث مغربي
***
إن الممارسة السياسية ليست فَذْلَكَةً لغوية أو تصورية ولا فهلوية انتخابية أو حشدية، الممارسة السياسية يجب أن تكون بناء منتظما من القيم الفلسفية، وتربية على الممارسة النضالية، وقدرة على الانفتاح على المتغيرات وفق رؤية مستوعبة للمسار النضالي، وثقل المسؤولية التاريخية، فحزب العدالة والتنمية إلى الآن رغم مجهوداته لضبط خطابه وتقعيد ممارساته السياسية لم يتمكن من تجاوز تصوراته القديمة حول تدبير الصراع السياسي والانتخابي رغم أنه مر بتجارب ومراحل سواء في المعارضة أو الحكم وكانت لتسعفه في صقل تلك الممارسات وبيان حدود علاقاته واستراتيجياته، والإعلان عن تعاقداته الثابتة سواء مع مناضليه أو خصومه. إن التزامه اليوم بنفس الخطاب السياسي الذي دافع عنه قبل 5 سنوات وبقاء النبرة الدعوية عالية على برنامجه المسطر، إن لم تكن تغطي عليه في بعض الأحيان، يدفع بالمتتبعين إلى التساؤل حول مدى قدرة القيادات اليوم على ممارسة النقد الذاتي على التجربة ؟ وهل هم قادرون فعلا على بلورة نقاش حقيقي حول مواضيع حساسة كانت تعرقل ممارساتهم أثناء تدبير الشأن العام ؟ وكيف يمكن لهم انتاج خطاب سياسي بعيدا عن الغموض واتهام الأشباح بإعاقة مسيرة الاصلاح؟ وهل هم قادرون اليوم على تفكيك ألغامهم الاصطلاحية التي تداولوها أثناء فترة الحكم من مثل العفاريت والأشباح والتحكم وجيوب المقاومة وو؟ وهل لمناضليه القدرة اليوم على الزام القيادة بالممارسة الديمقراطية وثقافتها في مرحلة الاستحقاق الانتخابي وما بعدها وكشف أي كولسة أو تعسف على المناضلين لاختيار مرشح دون آخر؟ وأرجو ألا تكون نواياهم الانتخابية تقودهم هذه المرة الى السقوط في أوهام الوثوقية الحشدية ويزايدوا على المواطنين ببيانات سياسية مفذلكة ملغمة أو برامج سياسية مغلفة بخطاب دعوي متجاوز، حتى لا يهدموا التجربة رغم ما عليها ولا يقودوا الجميع الى الجحيم بنواياهم الحسنة، قال عز وجل: ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا .الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).

02

إن الحكم [ وليس التحكم ] بشكل أفضل يستدعي ممارسة التذكير المستمر بدوائر السلطة والنفوذ التي لا يجب على قوى أخرى الوصول اليها أو المساس بها، والخطاب السياسي القوي يحمل في بنيته ومنها البلاغات ما يحيل إلى معنى من المعاني الدالة على أن الفاعل السياسي "يحكم/ يؤطر العملية السياسية" وله خياراته التي يدعم بها مواقفه وتصوراته للصراع القائم بينه وبين مختلف الاطراف الاخرى، إن الدولة المغربية بما تشكل في جوهرها وضمن روافدها من ثقافة وآداب سلطانية لاتزال تذكر الاحزاب الحداثية يسارية ويمينية بماضيها القريب والبعيد، وما كانت تمثله باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تراث وتقاليد راكمتها السلطة سياسيا وتاريخيا ورمزيا والذي كثيرا ما يوصف ذلك التراث بأنه بنية مخزنية لها سطوتها وممارساتها وقدرتها على التكيف، وأي بيان سياسي [ بلاغات او خرجات..] لا يعدو أن يوصف بكونه استرجاعا ظرفيا لتلك الثقافة لممارسة المزيد من التسييج وحماية دوائر معينة تنتظم فيها القرارات وتصنع فيها وضمنها الخيارات، وكل بيان سياسي لها يمثل اطارا توجيهيا ملزما لكل فاعل متوهم لفعالية ممارساته الخطابية والبيانية على كسب غير مشروع  للاصوات أو مغتر بقدراته التحشيدية والسياسوية، فعودة الكل الى خيارات المخزن ولو كانت تاريخية أو رجعية أو عرفية هو التزام بقواعد وأعراف المشاركة في اللعبة التاريخية التي تظللها الآداب السلطانية وليس اللعبة الديمقراطية والكل يعي ذلك ومقتنع به، وفي نفس الوقت فيه تكريس لخيارات وتصورات محددة ربما يصعب على الفاعل السياسي المغربي التكيف معها ورغم ذلك يجب عليه أن يستفرغ جهده لاثبات الاخلاص والطاعة والرضا بالهامش المعلن والمتعاقد عليه  والتكيف معه، ولو استطاع تحديثه ذلك كله وتقديمه في خطاباته الدعائية لكان هذا وجها من أوجه التميز ولحظة فاصلة في مسيرة المؤسسة الحزبية في علاقتها بدوائر صنع القرار وعلاقتها بفئات واسعة من الناخبين.

03

إن المعارك الانتخابية غالبا ما تخاض على حافة الهاوية أو يتم دفع الجميع لها، بحيث يعمل كل حزب وكل طائفة على استقطاب أعدائها وخصومها للحافة ..، والسياسي المحنك كما المراوغ هما وحدهما القادران على جعل خصمهما ينهار ويستسلم للضربات قبل ظهور نتائج التصويت، فالمنافسة والحملة الانتخابية في الأخير ما هما إلا القدرة على ايجاد طول نفس أو نقطة ضعف لاستنزاف الجميع، وفي المغرب يسمح باستعمال كافة الأساليب الممكنة للإخضاع.

ومن جهة أخرى، يعتبر الاستقطاب المزدوج ظاهرة خطيرة طارئة على المجتمع المغربي فمنذ بدايات الحراك الشعبي المتعلق بالربيع الديمقراطي بدأت ملامحه تتشكل لأسباب عدة، فالمؤسسة الملكية والأحزاب السياسية بالاضافة الى حركات 20 فبراير تنازعوا كلهم في مستوى من مستويات ممارسة التدافع الاجتماعي نوعا من الاستقطاب المزدوج، فكل طرف يؤسس لمشروعية خطابه بناء على الاغلبية العددية في كثير من الأحيان.أولا؛ لتمرير أقصى ما يمكن من الطموحات السياسية من خلالها والدفاع عن الآفاق  والخيارات  المأمولة، وهذا مثاله 20 فبراير ومن ساندهم، ثانيا؛ الدفع بالطرف الآخر الى الارتماء في دائرة التذكير بالشرعية المستصحبة تاريخيا وأيديولوجيا وسلوكيا..، واعادة رسم ملامح اللحظة لتستوعب المتغيرات، وفق شروط محددة وتعاقدات جديدة ولكنها مفتوحة على التأويلات الدائمة.

إن اختلاط الالتزامات السياسية بين الاطراف المختلفة في النقاش السياسي باعتمادهم على الأعراف النفسية والمجتمعية بدل القوانين، وعدم وضوح كل الفاعلين في تعاطيهم لملفات وقضايا سياسية متعلقة باختلاف الرؤى ومراكز التدبير، ينبه هذا على أسئلة كبرى ومركبة مثل حدود التداخل بين سلط المؤسسات بحد ذاتها؟ ومدى قدرة كل واحدة على بناء التزام حداثي وواضح ولو كان عرفا متبعا؟ فما وقع من تجاذبات بين الاطراف السياسية في الانتخابات التشريعية في قضايا جزئية خلط كل الأوراق وشكك في كثير من الأعراف التاريخية وأعاد النقاش القديم حول جدوى ممارسة السياسة في المغرب في ظل تجاوزات واستغلال للنفوذ وشطط في استعمال السلطة.

 إن  زعزعة بعض مسلمات الوعي الجمعي عن مدى فعالية المؤسسات الدستورية المغربية - التي هي مكسب تاريخي-  قد يؤثر على مسار التحول الديمقراطي الذي ننحته اليوم بكل آماله وصعوباته، خصوصا إذا استحضرنا بقايا أثر  الآداب السلطانية على الممارسة الفعلية للسلطة في ثقافتنا السياسية، وتأثير ذلك على السلوك السياسي للفاعلين وتدبيرهم للشأن العام. فنخلص إلى كون بعض الممارسات الانتخابية الخاطئة -التي هي مرحلية- تدفع  بمن يستند إلى  وضعه أو يستغل نفوذه أو مركزه أو سلطته في ظل  المؤسسات او الاجهزة إما إلى التوغل في دوائر لعب الأحزاب للامساك بخيوط اللعبة بشكل متصلب أو خلق أعراف جديدة انتكاسية، لتظهر المزيد من التجاوزات والتأويلات غير الديمقراطية للتعاقدات الاجتماعية، أو يتخذ وضعا كمونيا فتتقلص صورته في الوعي الجمعي وتضعف تدخلاته أو تتخذ وضعا مرنا أكثر، وهذا الوضع الأخير، سيسمح للفاعلين السياسيين بممارسة خطاب متزن منضبط وبخلفية تعي مزالق السياسة وتحدياتها وحدود المباح فيها والحرام، خصوصا في اطار دولة تؤسس لثقافة وسلوك ينزعان للديمقراطية والتي هي في حذ ذاتها لاتزال تعيش فترة الصبا .

04

إن الايمان بكون الصراع المجتمعي هو ضرورة ملحة وطبيعية من أجل الحصول على نتائج تتميز بالجودة يعد وضعا مختلا من الناحية المعرفية ويكلف من الناحية التاريخية والنفسية والسياسية؛ إذ يكسر علاقات  المجتمع  التي تأسست بحكم الروابط الطبيعية والثقافية، وينتج عن هذا التصور ولادة وعي معاق ينمو في ظل ثقافة تمجد واحدية الرأي ويذكي الخصومة ونفي الآخر  وينهي كل التعاقدات المبنية على الإختلاف، كما أن هذه الفلسفة السلبية تدفع إلى تمرير "أيديولوجيا الانسجام" باعتبارها قضية فلسفية وأن النزال النظيف في الممارسة السياسية والانتصار المجيد يحدثان فقط إذا تم ارباك الخصم أو جعله خاضعا أو تفكيك قدراته وطمس هويته. والنتيجة في الأخير، هي خسارة اجتماعية وثقافية وسياسية..، مما يجعل الطرف المنتصر يؤسس لثقافة المصادرة والاستبداد  ويؤطر بها المجتمع الذي يمسي بدوره قابلا للتفكك وذهاب هويته وفاقدا لإيمانه بجدوى أي ممارسة سياسية أو انتماء لمؤسسة أو لمشروع أيديولوجي أو ثقافي ولو كان وطنيا.رابط المقال:

http://www.lakome2.com/opinion/%D9%85%D9%86%D8%A8%D8%B1-%D8%AD%D8%B1/18303.html

الأحد، 11 سبتمبر 2016

عالمنا المعاصر والتحولات الصعبة، “العنف المنظم أنموذجا”

عالمنا المعاصر والتحولات الصعبة، “العنف المنظم أنموذجا”

بقلم :د.يوسف محمد بناصر
باحث مغربي

يقتضي مبدأ التعقل الإنساني في العصر الحاضر، أن ننظر إلى كافة الصراعات والنزاعات الدموية التي تظهر في بقع مختلفة من أنحاء العالم على أنها؛ صيرورة سلبية، ترافق الخلق الإنساني منذ بدء التاريخ، فرغم ما توصل إليه الإنسان من علوم وقوانين وما أبدعه وصاغه من أخلاقيات ومعارف، وما حققه من عمران بشري وصناعي وما مر به من تنوير ونهضة…، لم يستطع بعد هذا “الكائن البائس” أن يضع حدا لنزاعاته ونزواته البدائية، والحادة في كثير من الأحيان، فالعنف في عقيدته وفكره وسلوكه أمسى شيئا طبعيا  أكثر منه تطبعي، ربما لذلك لم يستطع التخلص منه، فهو يمارس العنف غالب نهاره في أنحاء مختلفة من المدن والحواضر والأمكنة والشوارع وحتى في عمله وداخل منزله، بل في كل يوم يتلذذ الناس بمشاهدة أفلام الرعب، والحركة”الأكشن”، والمصارعة في التلفزيون وهم يتناولون وجبة العشاء، ولهم معها موعد أسبوعي على شاشات السينما، فيغذون مخيالهم بها، مما يزيدهم مراكمة للسلوك العنفي، ويزيد غريزتهم تعطشا للبحث عن الإشباع السلوكي؛ فيقعون ضحية الاستدراج، ليمارسوا العنف في أي وقت وفي أي مكان عندما تسنح لهم الفرصة لذلك.
لقد كان النظام الإنساني الاجتماعي والأخلاقي، محصلة تراكم التجارب والتوافقات في التجمعات وبين الأفراد على مر العصور، فأغلب النظم التي تحكم عالمنا اليوم، إنما هي خلاصات التجارب الإنسانية في التاريخ، فتلك التجمعات قامت بصياغة تصورات مشتركة عن الأنظمة والأخلاق، لتحكمها وتحتكم إليها، وتربط بعضها ببعض بها على أساس التضامن والعدل، وتحفظ بها تجمعاتها من الفوضى واللانظام بكل تجلياتهما.
فنزوع الكائن الإنساني نحو تحقيق مشترك أخلاقي واجتماعي، كان الهدف منه تحقيق الإستقرار أولا، ثم التعايش بين مختلف أفراده، بله والتجمعات الأخرى، وتدبيره الخلافات والاختلافات، فوضعت أنظمة تحافظ على روح الوحدة والتكافل الأمني والروحي والاقتصادي والأخلاقي وغيرها، ولم تكن هذه الأهداف المسطرة، وليدة لحظة معينة في التاريخ أو طفرة وقعت، بل كانت نتيجة تراكمات لسنوات ولأجيال متعاقبة، وهي أيضا نتيجة إحساس بالنقص، والحاجة للانضباط لأخلاق الجماعة ولروحها، بعدما تم تأسيس أول مجتمع بشري، وكانت غايته تحقيق الدفء الجماعي وإشباع روح الفرد.
إن ما بني اليوم من ثقافة السلم والسلام في المجتمعات المعاصرة واعتبر مكسبا معرفيا وسياسيا واجتماعيا، كان نتيجة قوة إرادة الفرد والمجتمع الانساني في كبح جماح الانفلاتات الطارئة في السلوك الإنساني؛ والتي تستهدف حرية الإنسان ومكتسباته الثقافية والسياسية والاقتصادية. ولم يكن الفرد وحده هو الذي يهدد ذاك الاستقرار بل كان تغول الدولة ومؤسساتها والتنظيمات الأيديولوجية وانتشار الشطط في استعمال السلطة بسبب الفساد في النظام بقطاعاته الحيوية وتأفف المواطنين من المعاملات اليومية مع الإدارات العمومية، كل هذه العوامل ترسخ السخط في أوساط المواطنين من أجل الانتفاضة بدرجات متفاوتة وبتلقائية ضد كل أشكال القمع والتجاوزات، ولا يمكن أن تصبح انتفاضتهم ذات تأثير كبير إلا إذا كانت خارج بعض المؤسسات خصوصا منها النقابية، حينها يعبر الأفراد بحماسة ودون خلفيات تحد من إرادة ثورتهم؛ إنهم يعبرون عن مطالبهم في الحرية والعدالة والرخاء، وقد تكون هذه المطالب موجودة ولكن وقع عليها المصادرة أو الانتهاك بسبب انحراف في تأويل الدساتير المنظمة للمجتمع والعلاقات والسلط، وهي أنماط متسلسة ومتناسقة من التعاقدات الاجتماعية والسياسية الملزمة التي إذا فسدت فسد كل شيء. وقد تكون الثورة بسبب فشل في وضع القوانين أو سوء تدبير أو فشل في تدبير الحكم أو فساد وممارسة بيروقراطية للسلطة .
إن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي المعاصر، يدفع بعجلة العلم نحو أفق أرحب لخدمة الناس، ويعدهم بتحقيق مزيد من الازدهار والرخاء والسلم، ولكن لابد من التذكير بأن التاريخ الإنساني عرف منحى مضطربا أيضا، فمع كل ازدياد للتطور والازدهار والرفاهية وحياة المتع والترف؛ تتوالد في أذهان بعض الساسة والمؤدلجين والبيروقراطيين مخططات معقدة لارتكاب مزيد من الجرائم في حق شعوبهم، فيستغلون منابرهم وعلاقاتهم وأحزابهم ومنظماتهم وإعلامهم..، وتظهر جماعات الفوضى واللااستقرار التي تنتعش من الفوضى وتغتني منها، ويتناسل العنف باعتباره تعبيرا مضادا ورد فعل طبيعي، ليتخذ أشكالا مختلفة، ينتظم في الأرياف والضواحي والأحياء المهمشة، لينمو متجسدا في أفكار يمينية ويسارية متطرفة، ويمتد هذا العنف زاحفا على المؤسسات في أجندة وبرامج سياسية حماسية “فاشيستية” غير معقلنة، وتستغل هذه الفئات المنافذ الديمقراطية والروح الليبرالية للمجتمع لتنشر عقائدها وعداءها لفكر التنوير والاختلاف، فتمتد شرعيتها وتكتسب المشروعية مما بقي من منافذ مؤسساتية، لتصبح اجماعا وطنيا نافذا وتكون “دوغما مغلقة” ليؤمن بها الجميع ويستعد الجميع لفدائها، وربما الوضع الأوربي وما يحدث من نقاشات مجتمعية وسياسية حول “الوحدة الأوربية” و”مسألة المهاجرين” و” تدبير الأزمة الاقتصادية” وغيرها كلها توحي بأن القادم صعب.
إن الترف والازدهار كما التخلف والجهل لهما ضريبتهما الأخلاقية والنفسية والأمنية، وما يحدث اليوم من ظهور لحركات النازية الجديدة وصعود اليمين المتطرف وتناسل الحركات الجهادية بمختلف مسمياتها، وتنامي الحس العنصري والانشغال بتعزيز الهويات الثقافية والعرقية والمذهبية في أنحاء أوربا وأمريكا، وفي مختلف مجتمعاتنا العربية، كل ذلك نذير شؤم على أن الاستقرار الإنساني مهدد، ولا يمكن وصفه إلا بكونه نوعا من الاضطراب الذي أمسى يزعج عالمنا اليوم، ويشكل تهديدا للسلم الاجتماعي والسياسي والأمن الروحي وحريات الأفراد والفكر لجميع المجتمعات. إنه في الأخير؛ ضوء أحمر على أن التنوع الإنساني في المجتمعات الإسلامية والغربية قد انتكس، وأن قبول الاختلافات ومحاولة تدبيرها مهما كانت صورتها أضحى ركنا منهارا وفلسفة باهتة، إنها صورة قاتمة -ويا للأسف- لما يشهده عالمنا من تحولات صعبة وعنيفة قد تنحو به إلى مزيد اضطراب على المستوى الاجتماعي والقيمي والاقتصادي، مما يجعل ما راكمته الإنسانية من فكر تنويري وتراث عقلاني وروح إبداع ومكاسب جمة على جرف هار.
*كاتب وباحث مغربي
منبر الحرية، 10 سبتمبر/أيلول 2016
رابط الموقع: http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/9533

الأربعاء، 15 يونيو 2016

البراديغم الداعشي… عندما يتحول الإيمان إلى أعلام للقراصنة ج2.

البراديغم الداعشي… عندما يتحول الإيمان إلى أعلام للقراصنة ج2.
****

يوسف محمد بناصر    
باحث مغربي
****

لقد سبق وان اعتبر الإمام علي –كرم الله وجهه- فئة الخوارج بغاة وخواطئ، وعندما قارنهم بغيرهم من مخالفيه اعتبرهم طلاب حق فقال:”ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه”، واليوم تلعب هذه الفئة على مشاعر المؤمنين بادعاء استرجاع القيم الراشدة التاريخية وبتمثل الحكم السديد، وذهنية المؤمن أمَدُها لا يستوعب مآل تعاطفه الروحي مع قضايا تتعلق بمعتقده، لأن ذاكرته تقتصر على الحلم بتحقيق مشروع الخلافة المؤجل والتي ستأتي لتوفر الموعود من رخاء وعدل ومساواة..، ونرجسية المؤمنين المجروحة حول هذه المفاهيم المأزومة حينئذ ستتحفز النفوس فتسقط في فخ الانتماء لا شعوريا للدعوة المتطرفة والتعاطف مع مشروعها. هذا المدخل النفسي والروحي الخطير هو الآن في قبضة الحركات المتطرفة، تفتحه في وجه المثقفين والأميين وهم سيان، أهل دار الإيمان أو المهاجرين لدار الكفر – بتعبيراتهم-. وهذا ما يفسر كذلك تلك “الهجرة المبهمة والمعكوسة” لبعض الشباب المثقف من مختلف الدول سواء كانت عربية إسلامية أو غربية لمناطق النزاع في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان..، فمفتاح تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية يتوقف على الاستعداد للارتماء في أحضان إحدى تلك الحركات. والاتصالات المعولمة تلعب دورها اليوم كوسيلة لتأجيج هذا الاختراق وتوسيع نطاق المتعاطفين والـمُـستقطَبين، لأن الوعود المثالية بتحقيق جنة أرضية تجد لها دائما آذانا صاغية ثم بعدها حصادا من اليائسين من ذوي النوايا الحسنة. وتنهار لحظتها ثقافة الإنسان عاجزة عن الممانعة أو تنشيط الوعي النقدي لدى هذا الكائن البائس، وتكتفي بتوريطه في دور التابع والمبرر، فتتحول الثقافة والفكر إلى عنصر مميت وقاتل. والتحاق بعض العلماء أو ذوي الشهادات العليا من مختلف التخصصات العلمية والأدبية بمعسكر الحركات المتطرفة؛ يعد لحد الآن في عيون بعض المحللين مسألة مستغربة ومبهمة لا يجدون لها التفسير المناسب. ولكن إذا قمنا باستقراء التاريخ الإسلامي الحديث وما طرأ عليه من استعمار وأنظمة استبدادية وتمزق طائفي وانتشار للأمية، واعتمدنا على تفسير وفهم لصيرورة التحولات الاجتماعية والسياسية الطارئة في المجتمع الإسلامي المعاصر في علاقته مع الحضارة الحديثة وحنينه الدائم للماضي، سنقترب من الإمساك بالخيط الناظم، ونفكك آلية الاشتغال التي تعتمدها التنظيمات المغلقة في التعبئة والاستقطاب، فلا فرق بين متعلم وجاهل في لحظة حماسة واستجابة لنداء مقدس. إنهم ينسجون لعبتهم على مختلف التناقضات ويحركون الحمية الدينية ويموقعونها في لحظة تاريخية، فهم كمن يضبط ساعة يده على توقيت بلد يقوم فيه بالسياحة، بحيث يجد الفرد نفسه يتمثل عصرا غير عصره وبطولة موهومة ليست له، وكل زعمه أنه يحقق مجد الأجداد والسلف، ولو تطلب الأمر أن يستنهض قدراتهم مرة أخرى من رفاتهم الأبدي، ليحقق النصر بتفاصيله الدقيقة والمملة في لحظته هو وزمانه الواقعي. فلا تفكير ولا مراجعات لتفاصيل الدعوة ومصاديقها أو لخلفيتها العقدية أو الاجتماعية أو السياسية، بالنسبة لهم إنما هو تصديق وإيمان،تنفيذ للأوامر، ثم نصر أو شهادة. وانتشار عمليات التفجير الذاتي للنفوس يعد في هذا الباب خير مثال على أن المنتمين للتنظيمات الإرهابية يلغون ذواتهم ومصالحهم وكل عواطفهم مصدقين ومدركين أن مقصدهم المثالي لا يقارن بتحقيق أي هدف مادي أو معنوي آخر، وهذا لا يكون إلا إذا تجلى لهم أن كل شيء باطل ولا قيمة له أمام الـمـــُثل العليا التي يسعون إلى تحقيقها.
قد حدث في التاريخ الإسلامي أن ناظر عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي[61ه /101ه،] الخوارج في زمانه، فاستخدم في حواره معهم الحجج التي يقرون بصحتها، فحاججهم بسلوك من يعترفون به كأبي بكر[ت،13ه] وعمر[23ه]، وبلال بن مرداس [ت 61 هجرية] وعبد الله بن وهب الراسبي أبرز قادتهم، فبين أخطاءهم بشهادتهم على أنفسهم، فرجع منهم الباحث عن الحق إلى الرشد وبقي المتعصبون على رأيهم، واستولى على عقول ونفوس الخوارج عبارات اللعن والتكفير والبراءة وطلبوا من عمر أن يقر بها في حق أهل بيته، وإلا فلا التقاء بينهما، فلم يجزع ولم يفزع الخليفة عمر، بهذا الطلب الصعب الخاطئ بل صبر وضبط نفسه وحاور القوم بالحجج الدامغة فهو طبيب يبتغي العلاج وليس جزارا يريد سفك الدماء. صورة أولئك تبقى مستعادة اليوم ببؤسها المعنوي والمادي، وخصوصا أن وسائل الميديا اليوم توثق الجرائم بالصوت والصورة، وما أرتكب من تقتيل وهتك للأعراض وتدمير للإرث الحضاري والإنساني من متاحف وآثار للدول والحضارات القديمة، يصعب على العقل أن يتصوره وأن يتقبله، ومناظرتهم اليوم حول صوابية أفعالهم بعد كلما ما حدث لا قيمة لها، وقد سبق أن فعلت هيئات إسلامية ذلك في وقت سابق مع تنظيم طالبان، لحظة إقدامهم على هدم تمثال بوذا التاريخي بأفغانستان، فلم يحفز ذلك قدراتهم الإدراكية لمراجعة مواقفهم من العنف والعلاقة مع الغير وأهمية الحفاظ على الإرث الحضاري المشترك، ولن يحفز كذلك قدرات هؤلاء الجدد من المتطرفين؛ لأخذ قسط من سكينة للتفكر والتدبر في مآلات سلوكاتهم البدائية واللاحضارية والمأساوية على مستقبل الإنسانية جمعاء…
*كاتب وباحث من المغرب.
منبر الحرية، 13 يونيو/حزيران 2016
رابط المقال:

http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/9498

الجمعة، 25 مارس 2016

culture of violence and non-violence in Islamic thought

ثقافة العنف واللاعنف في الفكر الإسلامي

بقلم: يوسف محمد بناصر- باحث مغربي
الملخص:

يعتبر العنف مشكلة ثقافية واجتماعية انسانية امتدت عبر التاريخ، وتعقدت مع اختلاط العنف بالمقدس، وتورط الفهم السيء للدين والتأويل المختلط بالنزعة الايديولوجية والعقائد المغلقة بمضامين بعض النصوص الدينية، وقد خاضت الثقافة والحضارة الاسلاميتين تجربة تاريخية مع مختلف أشكال العنف الديني عبر فترات الصعود والانحطاط، فانبثقت فرق اسلامية أسست رؤاها السياسية على السلوك العنفي بعد أن عززته بخلفية دينية، ولايزال ذلك يؤثر على التاريخ الاسلامي سلبا لأنه أمسى مرجعية معتمدة عند بعض الجماعات الجهادية المعاصرة.

إن مواجهة العنف الديني لا تكون إلا بالمعرفة والتربية على حرية الفكر والضمير والارشاد للإبداع بدل السقوط في فخ الرجوع المكثف للعقل الماضوي، وهذا الرجوع يعني السقوط المتكرر على عتبات أحداث مأساوية تاريخية؛ باستعادة بعضها بما تتضمنه من ثقل على المستوى العاطفي والروحي والمعرفي والسلوكي. إن العمل على تنمية القيم الروحية وتوسيع آفاق التواصل والتعارف يمكن المجتمع المسلم من تجاوز ثقافة الانغلاق التي سقط صريعا بسببها لمدة الاستعمار، فأنتجت لديه الاحساس بالكراهية والبغض وثقافة الالغاء وعدم الاعتراف كردة فعل فيما بعد.

يعد العمل السلمي واللاعنفي كما تدبير الحوار والصراع ثقافة غير معترف بها إلى الآن؛ في ظل سياق مجتمع يعيش على العنف والتطرف وتصاعد الكراهية بين مختلف مكوناته العرقية والمذهبية والسياسية..، والعمل على تجاوز هذه السلبيات وتشكيل ذلك الوعي والثقافة لا يكون إلا بإعادة قراءة النصوص الدينية بعقلية مستوعبة لتحديات العصر ومشكلاته المعقدة، ويمكن تعريف تلك القراءة بأنها هي القدرة على امتلاك معرفة لا تتحيز للماضي وعقل تنويري نقدي لا يتعامل مع النصوص دون منهجية مقاصدية مع انفتاح على انتاجات المعرفة الانسانية والاستفادة منها دون توجس وبمختلف مجالاتها.

إن مختلف الثقافات الانسانية تعيش على وقع عنف في غالب الاحيان تكون خلفيته دينية، والمعرفة والمجتمع الاسلاميين ليسا بدعا عن تلك الثقافات، ويبقى السبيل للتحرر من هذه الرذيلة أن تتظافر جهود الباحثين والمربين والمفكرين بمختلف تخصصاتهم لتأسيس بيداغوجيا تصحح بعض المفاهيم والسلوكات التي تبقي حجم ثقافة العنف متضخمة ونابضة في المجتمع، مما قد يساعد على تجفيف منابعه وتعويضه بثقافة التعايش والسلم والمعرفة والقدرة على الانفتاح والتواصل، وبناء جيل مستقبلي يطمح للسلام ويخدمه ويسمو بروحه وسلوكه ومعرفته حتى يصل للكمال الإنساني والحضاري.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
http://www.mominoun.com/articles/categories/11

الاثنين، 8 فبراير 2016

البراديغم الداعشي… عندما يتحول الإيمان إلى أعلام للقراصنة ج1.

البراديغم الداعشي… عندما يتحول الإيمان إلى أعلام للقراصنة ج1.

************
بقلم: يوسف محمد بناصر
باحث مغربي


إن المتمعن في قراءة التحولات الكبرى في المجتمع الإسلامي سواء على المستوى السياسي والفكري والأخلاقي…، لما بعد الخلافة الراشدة، يستنتج أن العنصر المهم الأبرز في ظهور الفكر السياسي الإسلامي يعود إلى انفجار العنف، أو ما بات يعرف بزمن الفتنة وما بعدها، هذه الفترة التاريخية القلقة والعصيبة في التاريخ الإسلامي لا تزال تمتد ضاربة بجذورها ورامية بظلالها على أغلب مراحل الحاضر، وقد يكون لها امتداد أوسع على مستقبل الأمة، ومآلاته لا تبشر بخير إلى الآن.
إن العقيدة المتطرفة ما كانت لتنمو لولا غياب الفكر النقدي وحرية التعبير عن الأفكار، ثم يأتي غياب وسائل تدبير الاختلاف والحكم في المرتبة الثانية، وهذه الأسباب الخطيرة، هي ما كان يؤطر مجموع عقائد الفرق المتطرفة على مدى التاريخ الإسلامي، ابتداء بالخوارج وانتهاء بالفكر “الداعشي” اليوم.
إن استعادة الخلافة الراشدة وإسقاط الحكم الظالم،كما سبق أن تصوره الخوارج لا يكون إلا بالسيف، وخاصة بعد قيام وراثة الملك وسقوط الخلافة الشورية ، وهنا يتقاطع وينسجم التصور السلفي الجهادي المبني على خلفية تاريخية مثالية للدين والتدين مع من سبقهم من الخوارج، مما يجعل من الاستحالة بمكان تفكيك بنية تفكيرهم أو تغيير تصوراتهم لما يجب أن يكون عليه الواقع المعاش في اتساقه مع مفهومات الدين وتمثلاته الحياتية، لتعجز مناهج التفكير أمام وثوقية الدوغما المغلقة. ومناورة التأويل في هذا المجال الحساس تبقى “خطا أحمرا” يربك العقل، لما قد يتسبب فيه هذا الأمر من خلخلة لمناهج التفكير الديني في السياق المعرفي الإسلامي الكلاسيكي. إن هذا التوصيف ينطلق من قراءة واعية للانقسامات المتطرفة والعقائد المتناقضة التي احتضنتها هذه الثقافة منذ فترة الانفتاح على الثقافات المجاورة في الصدر الأول من الإسلام. والتناقض الفكري الذي تلبس نصوص بعض المفكرين الرواد في مجال الفقه وعلم الكلام والتصوف، وفي بعض الأحيان ما وقع من تناقضات منهجية وعقائدية لدى بعضهم الآخر له دور أساسي في إظهار طوائف متطرفة في مختلف العصور وفي مختلف التوجهات. وترجع بعض الأسباب الأخرى إلى بساطة بنية العقل العربي الذي تنزل فيها النص المؤسس، وعدم استيعابها الكامل لمختلف المضامين التي تختزلها الرسالة القرآنية، ثم مدى استيعابها تحول المعاني من بنية اجتماعية إلى أخرى. كما أن وقوع حوادث سياسية عظام في خضم التجربة الإسلامية كالفتنة وغياب رؤية سياسية ناضجة للدولة الإسلامية واغتيال أغلب “الخلفاء الراشدين” ثم إغلاق التجربة السياسية الفتية بسيطرة فكرة التوريث والتسلط ثم ملاحقة المعارضين –من فقهاء أو فلاسفة وساسة – للقضاء عليهم من طرف الحاكم المتغلب؛ كل هذا ساهم في بلورة دوائر عقدية مغلقة، تستقطب بجاذبية مقولاتها ومثالية طروحاتها كل المهمشين والتائهين والمارقين وبعض المؤلفة قلوبهم من ذوي المصالح العرقية والمذهبية من مختلف الأقطار. لتُكَون لنا طائفة من المؤمنين المنساقين وراء شعارات طغت عليها المثالية متجاوزة بها البناء النموذجي الذي رسخه الرسول الأكرم في مجتمعه والذي يتسم باتساق منهجه مع الواقع، لتقدم هذه النزعات المتطرفة بدائل تعدها أرقى؛ لتتجاوز بها كل ما سبقها من التجارب. فكانت هذه الطوائف التي كرست أنموذجها المثالي بالعنف مستعدة لتعيش تناقضاتها المركبة متحدية كل القيم في صورتها التاريخية، وهي اليوم ووفق النموذج الذي ندرسه تتحدى الحداثة وقيمها.
إن “النموذج الداعشي” قد قوى فرصته لاستعادة نموذجه التاريخي، والمتمثل في استمداده من لحظات الإشراق الديني والسياسي في الحضارة الإسلامية بكل تفاصيلهما، ابتداء بالتقسيمات الإدارية والتوصيفات الشرعية وتركيبات مفاهيم السياسة الشرعية والآداب السلطانية وانتهاء ببنية الخطاب السلفي المستعاد بشكل انتقائي وفظيع من مرجعيات ومصادر فقهية محددة. بحيث يتم الترويج لخطابها كل مرة في الأشرطة المسجلة، وفي كل ما تبثه قنوات هذه الحركة المتطرفة وغيرها كوسيلة للدعاية لمواقفها ولتوضيح أيدلوجيتها.
إن تعريف البراديغم يتلخص في توفر عناصر متشابهة في موضوعات مختلفة، وبناء عليه فإن عنونتنا للدراسة بـ”البراديغم الداعشي..” يلخص ما تتضمنه من أفكار وتصورات حول كيفية تفكير هذه الفئة والبنية المعرفية التي تتحرك ضمنها وسياقها التاريخي والثقافي، وسنحاول أن نحفر في التأويلات الممكنة وغير الممكنة في بعض النصوص والمرجعيات التي تعد مؤطرا منهجيا لرؤاها، ودافعا معرفيا ونفسيا مؤسسا لها، حتى تظهر بمظهر المُخَلّص على مدى فترات تاريخية متلاحقة وفي مختلف الجغرافيات الإسلامية في العهود الماضية. وهي اليوم بدأت تتحرك مع بوصلة العولمة وتبيء مفهوم الشركة العابرة للقارات في قاموسها وتهاجر به إلى حقل الإرهاب الديني العابر للقارات، فلم تعد الجغرافية تحديا أو جدارا مانعا لمزيد زحف وصعود وتوسع شبيه بـ”حركة امبريا-دينية” تقوم بها هذه التنظيمات داخل أوطان مستقلة خارقة كل ما تدعيه هذه الأوطان من حماية أمنية ومخترقة مجتمعاتها ثقافيا ودينيا/روحيا وسياسيا.
تعتبر الحركات الإجتماعية المتطرفة ظاهرة سوسيولوجية على مر التاريخ، وغالبا ما تلتحف بعض الحركات منها بالمقدس لما له من أهمية بالغة في التجيش وخلق حالة النفير، بلا مقدمات معقدة ولا أجندة منطقية، فكل ما عليها هو الاستعانة بالنصوص المقدسة وانتقاء منطقة التوتر التي تسمح بجعلها أيقونة الحراك والاستقطاب الجماعي وإثباتها كهدف منشود، وبطبيعة الحال تلعب المواعظ دورا حاسما كما الاستدلال بلحظات مظلومية المرجعيات التاريخية أو بالتذكير بنبوؤات تبشر بها بعض الآثار حول تحقق مفاهيم إطلاقية كالعدل الكامل والدين الكامل والمجتمع المثالي والخلافة التي تطبق فيها إرادة ” الله” وحاكميته بلا تحيزات، ولتنزل أحكامه لتحل محل الإرادة البشرية وقوانينها الوضعية..، هذه السلسلة المدروسة من الأفعال المحبوكة والمركبة من الناحية التصورية، تجعل الأتباع يستجيبون للنداء ولا تبقى لهم لحظة للتفكير أو النقد أو حتى الاستيعاب، مادامت الفكرة مشرقة وتستند إلى المقدس وتدور في دائرة نصرته وإعلائه فلا مجال للتأخر. وإذا كان المحضن متوفرا فلا يبقى غير الاستجابة لمن تمت مبايعته على “السمع والطاعة” والثقة به فيما يتخذه من قرارات في المنشط والمكره، فيجد المجند نفسه في علاقة حميمية ودفء سيكولوجي مع إخوته ممن لبى النداء معه، فيقع في لا وعيه أن ما يعيشه من حماسة للفكرة هو حقيقة واقعية متمثلة في واقعه بتمامها، ولا مجال للشك أو الارتياب، وأن المشكك بعد هذا اليقين الجازم إنما يسبح ضد التيار ويعيش في أوهام شيطانية زعزعت يقينه وإيمانه، مما يتطلب إما الدعوة في مرحلة أولى ثم التصفية إن رفض التوبة، ولو كان من أقرب المقربين. واستعادة شكل المحاسبة ومظهر إنزال العقاب يبقى أمرا شكليا مادام التاريخ يتضمن الكثير من الأمثلة الواضحة والتي كان عليها وفاق ولها حجية معتبرة؛[ كالصلب أو القتل والـمُــَثْلَة والحرق..]، ولا حاجة لكثير إبداع. ويكفي أن تزين الأفعال ببعض الأدلة الشرعية، ليظهر الأمر للمُعَاقِب والمعاقَب بأنه تنفيذ لأمر السماء، فيتقبلها المؤمن وغيره بشيء من الرضا كأنه قضاء وقدر. وهذا واضح وجلي في المشاهد المفزعة التي تبثها قنوات ما يسمى بــ” الدولة الإسلامية بالعراق والشام” والتي تستعمل هذا الأسلوب بقوة لغرض تمييز صفها ومشروعها عن بقية الأطراف المتطرفة، وفي بعض الأحيان لتزايد على غيرها بشرعيتها ومشروعية سلطتها، وليتسق موقفها مع بنية الخطاب الذي تستقيه بعناية من نصوص تاريخية، وتنتقيه بدهاء عقدي وسياسي خبيث. وقد دفع هذا الفعل بتنظيم “الجبهة الشامية” وهو طرف منافس لـ”داعش” إلى إصدار شريط دعائي ضد هذه الأخيرة، سمته:” مسلمون لا مجرمون” في يوم07 دجنبر 2015م، هذا الشريط يهدم تصور الإخوة الأعداء عن مفهوم الجهاد والقتال ومعاملة الأسرى، كما يستبطن منهجية استثنائية تزعزع براديغم الحركات المتطرفة التي تشتغل في دائرة ضيقة مفاهميا وروحيا، بحيث لا يسمح سقف تنظيرها جميعا، ببناء تصور مغاير عن الفعل العنفي بمختلف مسمياته، خصوصا أنه يعد ممارسة طقوسية فريدة وبدائية عند أغلبهم، والذي من بين تمظهراته اعتبار الكائن البشري قربانا للإله. وأظن أن عرض الشريط بتلك الدقة والخلفية الإعلامية الدعائية المحترفة لا يخرج الجبهة من دائرة الفكر المتطرف، وستعتبره الأطراف الأخرى حيلة مدروسة دعائيا وإعلاميا، الغرض منه هو إعادة التموقع في خط يظهر “الجبهة الشامية” بأنها أكثر حكمة ورزانة وأقل تعطشا للدماء أو لاصطياد الضحايا أو الابتزاز بهم، وأن مشروعها السياسي والعقدي له سمات مميزة تخالف بقية أطراف المعارضة التي لها نفس التوجه.
* كاتب من المغرب.
منبر الحرية، 31 يناير/كانون الثاني 2016
***
رابط البحث:

http://minbaralhurriyya.org/index.php/archives/9427

الزاوية الناصرية والنسب الجعفري الزينبي المغربي وعلاقته بقبائل الجعافرة بجمهورية مصر ..

الزاوية الناصرية والنسب الجعفري الزينبي المغربي   وعلاقته بقبيلة الجعافرة بجمهورية مصر العربية ..