الاثنين، 7 ديسمبر 2015

مخطوطات المكتبة الناصرية بتمكروت

مخطوطات المكتبة الناصرية:
وهي ما بقي من كنوزها التي تناقلتها الاجيال ابا عن جد الى اليوم، رغم ان بعضها قد أتلف أو تمت هبته لخزانات  رسمية أخرى.
يمكن تحميل العناوين من هذا الرابط اسفله:

https://ia801407.us.archive.org/8/items/dmdmd/dmd.pdf


السبت، 5 ديسمبر 2015

حلقات فيض الأحوال:...

فيض الأحوال:...: حال"الانتظار المنقذ أو الجحيم، بين التكفيرية والحداثة والتقنية...!":08

******
سبق وأن اكد شيخ العارفين أن"..من طلب الله بعقله من طريق فكره ونظره فهو تائه وإنما حسبه التهيؤ لقبول ما يهبه الله من ذلك." وحالنا اليوم تبحث عن المنقذ، لتطغى فكرة المهدوية مرة أخرى على وجداننا، وان كان لابد منها، فارجو ان يستعاد العبد الصالح باستراتيجيته التي تشكل فقاعة يهبها العقل لأنها تطفو على معارفه الظاهرة، ولا يفجرها غير أهل الكشف الذين تحلوا بحال التهيؤ وحبَّسوا أنفسهم في مقام الانتظار محتسبين ذلك العمل فضيلة العارف الحق. لانه في هذا العصر،تتوحد التكفيرية بمسمياتها "الصلبة" و"السائلة" مع التقنية بآلتها الجهنمية ليصنعوا لنا هذا العالم ويشكلوا آلهة تصادر العالم لها لتبتلعه في لحظة غياب العقل أو عبثيته القصوى،إن تقنية ما بعد الحداثة وسطوة الدين يشكلان في هذا العصر "لعنة أطلنتيس" حيث يغرق العالم الاسطوري في لحظة هيجان شهواني طارئ،و المنقذ من اللعنة بحسب هيدغر كذلك هو الإنتظار، فحينما سُئل عما إذا كان للفلسفة من دور تلعبه في عالم يطحنه طغيان العولمة التقنوية، أجاب بـ"أن مهمة الفلسفة تنحصر في إعدادنا لانتظار إلهٍ، هو وحده القادر على إنقاذنا من الهول المنتظر". انتهى كلامه. إن المتلاعبين بالضمائر وبالعقول لا يكتفون أبدا من محاولة إفراغ كل شيء من المعنى، أو بتعبير نيتشه حين تصبح العدمية فاعلة، أي تتحول فيما بعد إلى أفق، وأنا أرى أن أملهم أن يكون كل العالم متجهما مغفلا فاقدا للإيمان، لتسكنه أشباحنا المثقلة بالضياع والارتياب والاستعداد للموت لإله اللاشيء. 
***** توقيعي

الاثنين، 23 نوفمبر 2015

التسامـــح الصــــوفي والطـــــــرقي بالمغرب

التسامـــح الصــــوفي والطـــــــرقي بالمغرب / جميل حمداوي

د. جميل حمداوي

jamil_hamdaouiتوطئة: إذا كان الشرق يعرف بكثرة الرسل والأنبياء، فإن المغرب يعرف بكثرة الأولياء والعباد والزهاد والصلحاء والمتصوفة، فضلا عن انتشار الزوايا والرباطات والمدارس الطرقية في
ربوع البلاد وتخومها الشاسعة منذ القرن الخامس الهجري، والتي ساهمت فعلا في تثبيت الأمن الداخلي والخارجي، ونشر الإسلام، وتوفير الاستقرار المجتمعي، والحفاظ على التصوف السني كما ورد عن الإمام القاسم الجنيد، وتحقيق التضامن والتعاون والتكافل الاجتماعي، والجهاد بالنفس والنفيس في سبيل وحدة الوطن وسيادته وحريته، ومواجهة الغزاة الطامعين والأعداء الألدة،  والحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى البذل والعطاء والكرم والجود، وخاصة في مواسم القحط والجفاف والكوارث الطبيعية. كما ساهم التصوف السني والزوايا الطرقية بالمغرب في انتشار فكرة التسامح بين العقائد والأديان، والتعايش بين الأنا والآخر.
إذاً، ماهو المقصود من التسامح الصوفي ؟ وكيف تبلور هذا التسامح تاريخيا وواقعيا وميدانيا مشرقا ومغربا؟ وماهي أهم تجليات هذا التسامح بالمغرب تصوفا وطريقة وعرفانا ؟ هذا ما سنتطرق إليه في موضوعنا المتواضع هذا.

? مفـــهوم التسامــح الصـــوفي:
تشتق كلمة التسامح باعتبارها مصدرا من الفعل الخماسي الزائد تسامح، والذي بدوره مشتق من الفعل الثلاثي المجرد سمح. وسمح سماحة وسموحا في معجم:" لسان العرب" لابن منظور بمعنى الجود والكرم والعطاء والسخاء. " وأما أسمح فإنما يقال في المتابعة والانقياد؛ ويقال: أسمحت نفسه إذا انقادت، والصحيح الأول؛ وسمح لي فلان أي أعطاني؛ وسمح لي بذلك يسمح سماحة. وأسمح وسامح: وافقني على المطلوب... والمسامحة: المساهلة. وتسامحوا: تساهلوا. وفي الحديث المشهور: السماح رباح. أي المساهلة في الاشياء تريح صاحبها. وسمح وتسمح بالتضعيف: فعل شيئا فسهل فيه... وقال ابن الأعرابي: سمح له بحاجته وأسمح أي سهل له. وفي الحديث: أن ابن عباس سئل عن رجل شرب لبنا محضا أيتوضأ؟ قال: اسمح يسمح لك؛ قال شمر: قال الأصمعي معناه سهل لك وعليك؛  قال: أسمحت: أسهلت وانقادت... وقولهم: الحنفية السمحة؛ ليس فيها ضيق ولا شدة.... وأسمحت الدابة بعد استصعاب: لانت وانقادت. ويقال: سمح البعير بعد صعوبة إذا ذل، وأسمحت قرونته لذلك الأمر إذا أطاعت وانقادت... والمسامحة: المساهلة في الطعان والضراب والعدو..."
هذا، وإذا كان التسامح في اللغة بمعنى الجود والكرم والعطاء والموافقة والتساهل واليسر والتخفيف، فإن التسامح في الاصطلاح هو نبذ التطرف والكراهية والإرهاب والصراع والعدوان، والميل إلى تقبل الآخر محبة وحوارا ومعايشة وصداقة وأخوة سواء أكان ذلك الآخر مماثلا لنا أم أجنبيا غريبا، وذلك باستخدام الحكمة والموعظة والجدال الحسن في مناظرة أهل الكتاب وغيرهم حجاجا وإقناعا وتأثيرا، إذا استوجب الأمر ذلك ردا ودفاعا ومناظرة وتعقيبا واستلزاما.
أما التسامح الصوفي في المنظور العرفاني والطرقي، فيتجاوز الدلالات الظاهرة إلى ما هو باطني جواني وأعمق إنسانية، ليقصد به الأخوة البشرية، والمحبة الكونية، والعشق الرباني، والعفو الأخلاقي، والصفح الحضاري، والإحالة على وحدة الأديان والعقائد والأوثان والأصنام، وذلك على الرغم من اختلافها من حيث الأصول والقواعد والأركان، وتباين مقاصدها الظاهرية، وتميزها على مستوى الأعراض الشكلية، إلا أن هدفها الواحد والأوحد هو عبادة الله جل شأنه، وطاعته انقيادا واستسلاما واستجابة. ويعني هذا أن التسامح الصوفي مبني على قبول الآخر مهما كانت جنسيته أو ملته أو إثنيته أو عقيدته أو لغته أو لونه أو فئته الاجتماعية أو طبقته السياسية أو طائفته المذهبية، فكل الديانات والعبادات والطقوس الشعائرية واحدة في منظور الإنسان الصوفي مادام المقصد هو  عشق الذات الربانية وتحقيق المحبة الإلهية.

? بدايــــات التسامــح الصـــوفي:
انطلق التصوف العربي والإسلامي بالمشرق منذ الدعوة المحمدية في القرن الأول الهجري، وكانت هذه الدعوة أخلاقية المنزع وربانية المقصد. فبدأت هذه الدعوة المباركة بالزهد مع الرسول (صلعم) وصحابته رضوان الله عليهم، ليتحول الزهد في القرن الثالث الهجري إلى تصوف سني عملي مع كبار المتصوفة المسلمين كالحسن البصري، والقشيري، وأبي القاسم الجنيد، وأبي حامد الغزالي، والحارث المحاسبي، وأبي زيد البسطامي، وذي النون المصري، وأبي طالب المكي، وعبد القادر الجيلاني، والعز بن عبد السلام...
بيد أنه في القرن الرابع الهجري، سيظهر التصوف الفلسفي مع مجموعة من المتصوفة الذين انفتحوا على ثقافات أجنبية كالحلاج، والسهروردي، وابن عربي، وعمر الفارض، وجلال الدين الرومي، وعبد الكريم الجيلي، وابن سبعين، وابن العريف...
ومن أهم النظريات الصوفية المشهورة في الحقل العرفاني المشرقي، نذكر: الحلول، والاتحاد، ووحدة الشهود، ووحدة الوجود، والفناء، وقدم الحقيقة المحمدية، ووحدة الأديان، وفكرة الإنسان الكامل، وفكرة الإشراق، وفكرة المقامات والأحوال، وفكرة المناقب والكرامات الصوفية...
ولم ينتقل التصوف بالمشرق من الحالة الفردية (الزهد- تصوف العلماء والفقهاء) إلى  الحالة  الجماعية في إطار رباطات وزوايا وخوانق وتكايا إلا في أواخر القرن الثالث الهجري، فكان للقطب أو الولي أو الشيخ مريدون وأتباع ومبتدئون وأوراد وسلالة ومكان للتعبد والاعتكاف وممارسة الحضرة والجذبة الصوفية، بل كان لهم أيضا سالكون مجردون ومجذوبون يخدمون الله أولا، ويخدمون القوم ثانيا،ويراقبون أنفسهم ثالثا. ولابد أن يجتاز المريد ضمن سفره العرفاني الوجداني والحدسي مجموعة من الطرق والمقامات، وقد حددها الشيخ أبو نصر الطوسي في سبعة مقامات: التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضى. والغرض من عبور هذه المراحل والمقامات والمجاهدات الوصول إلى الذات الربانية وصلا وإشراقا وفناء وبقاء وتقربا وكشفا وجلاء. وعندما يخوض المريد غمار المجاهدة والمراقبة تنتابه أحوال نفسية، وقد حددها الطوسي أيضا في عشر أحوال، وهي: المراقبة، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، واليقين.
ومن أشهر الطرق والخوانق الصوفية  في العالم الإسلامي: القادرية (عبد القادر الجيلاني)، والرفاعية (أحمد الرفاعي)، والبدوية(أحمد البدوي)، والمولوية (مولانا جلال الدين الرومي)، والشاذلية(أبو الحسن الشاذلي)، والميمونية (علي بن ميمون الحسني)، والزروقية (أحمد زروق)، وغيرها كثير.
أما إذا انتقلنا للحديث عن التسامح العرفاني في إطار التصوف الفلسفي،  فلن نجده بشكل واضح إلا عند ابن عربي صاحب نظرية وحدة الوجود ووحدة الأديان والعقائد. حيث يرى ابن العربي أن الأديان والعقائد واحدة مهما اختلفت معبوداتها وصورها وأشكالها، مادام الهدف من تلك العبادات هو التقرب من الله جل جلاله. فالذي يعبد الشمس يرى الله في الشمس، والذي يعبد القمر يرى الله في القمر، ومن يعبد الأصنام والأحجار والأوثان يرى الله في كل ذلك، ومن يعبد الأحياء يرى الله في الأحياء، ومن يعبد الله فقط، فإنه يرى الله جل جلاله هو المعبود الأوحد الذي يستحق العبادة والتقديس والسجود. وبالتالي، فليس كمثله شيء. وفي هذا النطاق يقول ابن عربي:
عقـــد الخلائــق في الإلــه عقائــد
                                        وأنـــا اعتقدت جميع ما اعتقــــدوه
علاوة على ذلك، فجميع الديانات والعقائد ولو كانت وثنية أو ملحدة، فهي واحدة عند ابن عربي من حيث الهدف، وذلك على الرغم من تنافرها، وتعدد أشكالها، واختلاف صورها على مستوى الظاهر، مادام المعبود في تلك الأديان والعقائد والشعائر على مستوى الباطن هو الله المحبوب. ومن ثم، فجميع الأديان رمز للمحبة الإلهية السرمدية. وهكذا، يكون ابن عربي من المتصوفة السباقين إلى القول بفكرة التسامح الصوفي فيما يتعلق بالأديان والعقائد، مستندا في ذلك إلى فلسفة المحبة الربانية والعشق الإلهي:
لقد صــار قلـــبي قابــلا لكل صـــورة
                                             فمــرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيـــت لأوثـــان وكعبــــــة طائــــف
                                            وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بديــــن الحب أنـــــــى توجهت
                                          ركائبــــه فالحب ديني وإيماني

وربما يكون ابن عربي قد تأثر بالمسيحية بلا شك في قوله بالمحبة الإلهية الكونية، كما تأثر بها الحلاج في قوله بفكرة الحلول(حلول اللاهوت في الناسوت). وهذا التسامح الصوفي في الحقيقة ليس مقتصرا على ابن عربي فقط، بل نجده بشكل من الأشكال عند معظم المتصوفة الفلاسفة الذين كانوا يتغنون بالوحدة الإنسانية، ووحدة المعبود، مع تعدد الأديان والعقائد والأوثان. ومن هؤلاء الحسين بن منصور الحلاج الذي تحدث عن تحقيق الإله الإنساني في الصوفي، وتجلي الذات الربانية في أجساد البشر، وحلولها في كافة ذوات الخلق:
سبحــــان من أظهر ناسوتــه       سر سنــــــــــا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقـه ظاهــــــــــرا       في صورة الآكـــــل الشــارب
وهنا، يؤكد الحلاج وحدة التجلي الرباني في خلقه مهما اختلفت العقائد، وتعددت الملل والنحل، مادام الخالق هو واحد، والمعبود مشترك بين بني البشر.
                                   
? التسامـــح الصوفي السني بالمغرب:
إذا كان الشرق بلد الرسل والأنبياء كما أوردنا ذلك سالفا، فإن المغرب أرض الصلحاء والأولياء. فقد ذكر ابن الزيات في كتابه:"التشوف إلى رجال التصوف" مائتين وسبعة وسبعين (277) زاهد أو صوفي مغربي إبان العصر الوسيط.  ويعني هذا أن:"أرض المغرب تنبت الأولياء كما تنبت الأرض الكلأ"  . بل هناك مصادر وفهارس ترجمت لأكثر من أربعمائة (400) متصوف مغربي  في العصر الوسيط كما في كتاب:"التشوف" لابن الزيات، وكتاب:" المستفاد" للتميمي، وكتاب:" المقصد الشريف " للبادسي، بله عن العديد من كتب الطبقات والتراجم التي قدمت تعاريف مقتضبة لمجموعة من الزهاد والعباد والمتصوفة المغاربة.
وإذا كان التصوف السني قد بدأ بالمشرق العربي والإسلامي منذ القرن الثالث الهجري، فإن التصوف بالمغرب قد بدأ متأخرا، وذلك في القرن الخامس الهجري مع الدولة المرابطية التي أسست مجموعة من الرباطات والزوايا والمدارس العتيقة التي كان يمارس فيها الزهد والتصوف والتعليم، وعبادة الله، ومحاسبة النفس، والاستعداد للجهاد الأصغر والأكبر.
 ومن المعروف أن المغرب إلى يومنا هذا مالكي المذهب، وأشعري العقيدة، وجنيدي التصوف، وفي هذا يقول الإمام عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي(توفي في سنة 765هـ) في منظومته المشهورة:
في عقد الأشعري وفقه مالك
                                  وفي طريقة الجنيد السالك

 والمقصود من هذا أن المغرب قد اختار دينيا طريق الاعتدال والوسطية والتصوف السني، بعيدا عن المغالاة والتطرف والتجريد الفلسفي. ويعني هذا أيضا أن التصوف المغربي لم يتجاوز سقف:"حد العبادة والزهد، وظل بمنأى عن التفلسف والصناعة اللفظية الكلامية، والشطحات والنطحات التي تعج بها بعض كتب التصوف، خاصة بعض الأشكال من التصوف المشرقي الذي كان غارقا في التجريدات الفلسفية، وإن كان من الإنصاف القول: إن هذا التصوف في مرحلته الباكرة شكل رافدا من الروافد المهمة التي ضخت في التصوف المغربي كمية كبيرة من روح الاعتدال، وزاد نموه في حضن المذهب المالكي من ترسيخ جذور هذا الاعتدال، وهو ماجعل رجاله ينأون بجلدهم عن الغلو في الفكر والسلوكات المتطرفة. وظلت هذه المزاوجة بين التصوف والفقه،  في ظل بيئة سنية تحصن الفكر الصوفي المغربي ضد أي اختراق للتطرف الفكري. كما أن التصوف المغربي تجاوز قهر شهوات النفس باستثناء ما هو مفيد للرياضة الروحية أو للتعبير عن قيم التواضع، لذلك سلك وسطية واقعية ذات بعد اجتماعي مزج بها بين إطعام الروح والبدن، وسطية نعتبر أن إشباع حاجات الجسد مما هو حلال إرضاء للخالق، ولا تخضع لمقولة أن حب الخالق يغني عن حب المخلوق" .
 كما عرف المغرب تاريخيا عدة مراحل عرفانية ومسلكية كمرحلة الزهد، ومرحلة التصوف السني، ومرحلة الزوايا والرباطات (الربط) والمدارس الطرقية، وابتعد أيما ابتعاد عن تمثل التصوف الفلسفي المغالي في التجريد والأهواء والشطحات والنطحات.
علاوة على ذلك، كان التصوف المغربي منذ بداية انطلاقه تصوفا سنيا معتدلا مبنيا على الوسطية، والتسامح، والتساهل، والابتعاد عن التطرف الفكري، وتمثل التوازن في مسائل العقيدة، واستهداف العدالة الحقة، وتثبيت السلم الاجتماعي، ونهج طريق الاستقامة والحق، والجمع بين الخيرية والمنفعة، والمؤالفة بين المتقابلات والمتناقضات والمتضادات، والميل إلى الواقعية، والمزاوجة بين ماهو مادي وماهو روحي  . وفي هذا الصدد يقول إبراهيم القادري بوتشيش:"  ولعل من أهم مظاهر وسطية التصوف المغربي ماتميز به من قمة التسامح في المعاملات والتفكير، دون تمييز بين الأجناس والأعراق والطبقات الاجتماعية، مستمدين ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية التي تدعو للتعارف والعفو والتسامح، وكذلك من مقولات الجنيد الذي عرف الصوفية بأنها:"كالأرض يطأها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي كل شيء".
فالتسامح الصوفي هو نتيجة وسطية فكرهم، وثمرة لتعامل يهذب سلوك الإنسان، ويغرس فيه قيم الحرص على التعايش مع الأفكار والرؤى لإنتاج فضاء مشترك يقبل رأي الآخر على الرغم من الاختلاف معه من أجل بناء مجتمع متعدد الرؤى، يؤمن بمسألة اختلاف الشعوب والأمم. ومن ثم، لاعجب أن تكون المدرسة الصوفية المغربية قد قدمت درسا في هذا الاتجاه نتيجة المجاهدات والمقامات التي يندرج فيها السالك للقرب من الله ومحبته. ولاشك أن محبة الله علمت هذا السالك حب الآخرين والتسامح معهم واحترام المخالفين؛ لأن حق الاختلاف في حد ذاته مبدأ وسطي يقع بين موقف شمولي يرى أنه وحده المرجع والمحق، وحرية مطلقة العنان تفضي إلى فوضى عارمة وانتفاء للمسؤولية."
ويعني هذا أن التسامح في التصوف السني بالمغرب له مرجعيات محددة، تتمثل في: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وتمثل منهاج الصحابة رضوان الله عليهم، واتباع طريقة الجنيد المنفتحة التي تؤمن بالانفتاح والتعايش مع الآخرين، حتى ولو كانوا كفارا وأشرارا ومذنبين وملحدين. لأن التصوف يهذب النفوس المذنبة، ويلقحها بلقاح السعادة الأبدية، ويطعمها بالعشق الرباني. ويقول الإمام أبو القاسم الجنيد:" كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته"  .
 ومن هنا، لم يبن التصوف السني بالمغرب على أساس التمييز اللوني أو العرقي أو الطبقي أو العقدي، بل كان يهدف إلى  صهر الجميع في بوتقة روحية واحدة . وهكذا، استطاع هذا التصوف أن يوحد بين المسلمين والمسيحيين واليهود بالمغرب داخل منظومة مجتمعية روحية واحدة:" وقد طبق متصوفة المغرب مبدأ التسامح والانفتاح على غيرهم، فاحترموا الأقليات الدينية من يهود ومسيحيين، وأشركوهم معهم أحيانا في صلوات الاستسقاء، بل إن بعض أهل الذمة أسلم على أيديهم لما لمسوه فيهم من حميد السجايا ومكارم السلوك الحضاري، أو نتيجة انبهارهم بكراماتهم الصوفية."
هذا، ولم يرفع التصوف السني بالمغرب راية التسامح الديني والمذهبي والطائفي إلا كرد فعل على الفرق الكلامية والفلسفية والمذهبية المتطرفة التي سادت المغرب خلال القرون الأربعة الأولى من تاريخ الإسلام بهذا البلد كالرافضية من الخوارج المتطرفة، والحشوية والموسوية من الشيعة الغلاة، والبورغواطيين وحركة حاميم المتنبىء وما صاحبها من سحر وشعوذة.
ويعني كل هذا أن التصوف السني بالمغرب جاء بخاصية التسامح وفكرة العفو والصفح لصهر جميع المغاربة في بوتقة مجتمعية واحدة خاضعة لخالق واحد وسلطة سياسية واحدة، وذلك مهما تعددت توجهات هؤلاء، واختلفت أشكالهم وصورهم،  وتباينت عقائدهم ونحلهم.

? التسامــح الصوفي الطرقي بالمغرب:
عرف المغرب عدة رباطات وزوايا طرقية، وذلك بعد القرن الخامس الهجري، فامتدت  هذه الزوايا، واستمرت إلى يومنا هذا في أداء رسالتها التربوية والتثقيفية والروحية والوطنية . وقد قامت بأدوار هامة على مستوى التعليم والإرشاد والتهذيب الديني والاخلاقي، بالإضافة إلى الأدوار الجهادية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية. ولعل أهمها:" نشر الإسلام بين الشعوب والقبائل التي لم يصلها الفتح العربي، وترسيخ دعائم التصوف السني، وتنظيم المواسم الدينية المرسية للعقيدة، والدعوة إلى الجهاد وتأطيره، وتشجيع الرحلة الحجازية إلى الحج، وتأمين المسالك التجارية والأسواق، وتحقيق التوازن الاجتماعي بين القبائل، وتثبيت الاستقرار، وضمان الولاء للدولة، والتشبث بالإمامة".
هذا، وتعرف مرحلة تأسيس الزوايا كذلك بمرحلة المأسسة والهيكلة والتنظيم والعطاء. فقد كان لكل زاوية أو طريقة أو رباط شيخ قطب، ومريدون متعلمون وسالكون مجذوبون، وأوراد وسلالة وكتب للذكر والمدارسة.
ومن المعلوم أن هناك فرقا جليا بين الزاوية والطريقة، وإن كان هناك من يرادف بينهما. فالزاوية عند الدكتور محمد حجي:" عبارة عن مكان معد للعبادة وإيواء الواردين المحتاجين وإطعامهم. وتسمى في الشرق خانقاه، وهو لفظ أعجمي يجمع على خانقهات أو خانقوات أو خوانق. وقيل في تعريف الزاوية المغربية: إنها مدرسة دينية ودار مجانية للضيافة. وهي بهذين الوصفين تشبه كثيرا الدير في العصور الوسطى. ولم تعرف الزاوية في المغرب إلا بعد القرن الخامس الهجري، وسميت في بادئ الأمر (دار الكرام) كالتي بناها يعقوب المنصور الموحدي في مراكش، ثم أطلق اسم (دار الضيوف) على ما بناه المرينيون من الزوايا كالزاوية  العظمى التي أسسها أبو عنان المريني في خارج فاس، وهي التي ذكرها ابن بطوطة في رحلته. وقد جدد الدلائيون بناءها أيام انتشار نفوذهم في العاصمة الإدريسية، فظن بعض المؤرخين لأنهم مؤسسوها. ومن أقدم الزوايا التي حملت هذا الاسم في المغرب زوايا الشيخ أبي محمد صالح الماجري(توفي سنة 1234م) في آسفي. وقد تعددت زواياه حتى بلغت ستا وأربعين، وانتشرت فيما بين المغرب ومصر، إذ كان هذا الشيخ يشجع أصحابه على حج بيت الله الحرام، واستكثر من اتخاذ الزوايا في الطريق التي يسلكها ركب الحجاج ليأووا إليها في مراحل سفرهم الطويل.  "
أما الطريقة فتعني المسلك العرفاني، أو المنهاج الصوفي، أو التصوف بصفة عامة. وفي هذا الإطار يقول  سيدي محمد بن الصديق الغماري رحمه الله:" فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي (صلعم) بعدما بينها واحدا واحدا دينا، فقال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم. فغاية ما تدعو إليه الطريقة، وتشير إليه هو مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان، ليحرز الداخل فيها والمدعو إليها مقامات الدين الثلاثة، الضامنة لمحرزها والقائم بها السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة. والضامنة أيضا لمحرزها كمال الدين، فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة. فمن أخل بمقام الإحسان الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه. ولذا، نص المحققون على وجوب الدخول في الطريقة وسلوك طريق التصوف وجوبا عينيا".
ومن أهم الطرق الصوفية المعروفة بالمغرب، نذكر: الزاوية التيجانية، والزاوية الدلائية، والزاوية الناصرية، والزاوية الكتانية، والزاوية العلوية، والزاوية العليوية، والزاوية الدرقاوية، والزاوية القادرية، والزاوية البودشيشية، والزاوية الشاذلية، والزاوية العيساوية، والزاوية الوزانية، والزاوية الريسونية، والزاوية الجزولية، والزاوية الشرادية، والزاوية الفاضلية، والزاوية الكنتية، والزاوية القندوسية، والزاوية الكرزازية، والزاوية الشرقاوية، والزاوية الحمدوشية، والزاوية الفاسية، والزاوية الصادقية...
ومن أهم مظاهر التسامح  الصوفي المتجلية لدى الطرقية والزوايا والرباطات بالمغرب، نستحضر الأنواع التالية:

1- التسامح الديـــني:
تنبني مجموعة من الزوايا على فكرة التسامح الديني، وتعايش الملل والنحل والعقائد والشعائر والأديان، فقد كان يجتمع في الزاوية المغربية المسلم إلى جانب المسيحي واليهودي والبوذي  كما هو الحال في الزاوية القادرية البودشيشية ببركان. فقد استقطبت هذه الزاوية كثيرا من المريدين من مختلف الدول والديانات. ومن أهم  هؤلاء: الفيتنامي نغويان هيي دونغ، وزعيم أقلية مسلمة بالفيتنام تونغ تاهن خان، والبوذي ميشيل طاو شان، والمستشرق الفرنسي إيريك جوفروي Eric Geoffroy، بالإضافة إلى لائحة من الأكاديميين والباحثين والموظفين أو المواطنين العاديين ممن قدموا من إسبانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا...
وكان من أثر التصوف السني والطرقي داخل المغرب وخارجه:"أن بعض المسيحيين لم يكتفوا بالدخول في الإسلام، بل تحولوا إلى أولياء، مثل: رضوان أبي نعيم بن عبد الله الجنوي(ت991هـ/1583م)، وأصله من جنوة الإيطالية، الذي أسلم والده على يده أحد صلحاء تطوان وحج، أما ابنه المذكور فتحول إلى (محيي الطريقة الشاذلية بعد اندراس آثارها) في القرن 10هـ/16م."
وهكذا، يتبين لنا بأن التصوف الطرقي بالمغرب قد ساهم بشكل من الأشكال في بلورة التسامح الديني، وإثرائه قولا وفعلا وسلوكا، وإغنائه تطبيقا وتعايشا وتفاعلا.

2- التسامــح اللــوني:
من أهم الزوايا المغربية التي اعتمدت على التسامح اللوني الزاوية التيجانية، والتي انفتحت في قاعدتها الصوفية على كثير من المريدين والأتباع من أفريقيا السوداء، فانتشرت طريقتها الروحانية في جنوب الصحراء الكبرى ما بين موريتانيا ومالي والنيجر والسنغال، ومازال التيجانيون المغاربة والأفارقة يتجمعون كل سنة بمدينة فاس للتذاكر والمدارسة وتلاوة الأوراد التيجانية. زد على ذلك أن  حوالي 51% من سكان السنغال ينتمون إلى الطريقة التيجانية المغربية.
وينطبق هذا الحكم كذلك على الزاوية القادرية التي انتشرت في ربوع أفريقيا السوداء، حيث عد وردها من أجل الأوراد الصوفية. ومن أهم  المريدين الذين تأثروا بالطريقة القادرية نذكر أحد ملوك الدولة الفلانية، ألا وهو محمد بلو الذي ألف مجموعة من الكتب في الطريقة القادرية، ومنها:" الدرر الظاهرية في السلاسل القادرية"، و" فتح الباب في ذكر بعض خصائص الشيخ عبد القادر فرد الأحباب"، و" شرح حزب البحر"، و" الرباط والحراسة".
ومن أهم الزوايا الأخرى التي آلفت  بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود في بوتقة عرفانية واحدة قائمة على قاعدة التسامح اللوني نذكر: الزاوية الناصرية التي انتشرت بمنطقة درعة وتخوم الصحراء الكبرى، بالإضافة إلى الزاوية الوزانية التي كان يشرف عليها مولاي علي الوزاني، فقد " كانت تأتيه الوفود برسم الزيارة... من بلاد الصحراء إلى السودان...لا تكاد تفتر عليه الركبان في الفصول الأربعة، سيما في فصلي الربيع والخريف،... وكل من يأتيه زائر يقدم بيده ما قدر عليه من الهدايا والتحف، مما هو مخصوص بهم في بلادهم... كالعبيد والإماء لأهل الصحراء".
ويعني هذا أن سبب انتشار التصوف بمعظم دول أفريقيا السوداء، كان ذلك بفضل الزوايا والمدارس الطرقية المغربية. ولولا التسامح اللوني لما أمكن لهذا التصوف أن ينتشر بسرعة ما وراء الصحراء الكبرى.

3- التسامـــح العــرقي:
استطاع التصوف الطرقي بالمغرب أن يصهر جميع المغاربة ضمن بوتقة مجتمعية وروحية واحدة، حيث ذوب هذا التصوف السني المعتدل والوسطي جميع الفوارق الموجودة بين العربي والبربري، أو بين الحضري والبدوي، أو بين المغربي والأجنبي. حتى قيل:"لولا التصوف لما انصهرت مكونات المجتمع المغربي، انصهارا ليس ثقافيا أو لغويا فحسب، بل حتى عرقيا، أفرز إنسانا مغربيا معلوم الصفات معلن السلوك إلى اليوم."
وللتمثيل والتوضيح، فلقد انخرط الكثير من البرابرة الأمازيغ في مجال التصوف، فأصبحوا مريدين وسالكين ومجاذيب، بل منهم من أصبح شيخ الطريقة كالجزولي مثلا. وفي هذا النطاق يقول صاحب كتاب:" مفاخر البربر":" وأما الأولياء والصلحاء والعباد والأتقياء والزهاد والنساك والأصفياء فقد كان في البربر منهم ما يوفي على عدد الحصى والإحصاء".
ومن هنا، يتضح لنا  بأن التصوف الطرقي بالمغرب كان مبنيا في جوهره على التسامح العرقي والإثني، فلا فرق بين عربي وعجمي  إلا بالتقوى والمجاهدة في سبيل الله.

4- التسامـــح الجــنسي:
لم يقتصر التصوف على جنس الذكور فقط، بل مارسته النساء عن صدق ومحبة وإخلاص. ويذكر تاريخ التصوف بالمغرب الكثير من المتصوفات اللواتي ارتبطن بالزوايا والرباطات. ومن بين هذه المتصوفات نذكر: السيدة عائشة بنت أحمد الإدريسية صاحبة المناقب والكرامات الخارقة. فقد قال عنها ابن عسكر:" أنها كانت ليلة المولد النبوي تعتني به، وتطعم فيه الطعام، وتذبح فيه البقر والغنم حبا في النبي(صلعم) على عادة فضلاء أهل المغرب في ذلك".
هذا، ويشيد ابن عسكر أيضا بأهليتها الصوفية، ومكانتها الاجتماعية قائلا:" كان الناس يتحامون حماها، ولا يقدر أحد على رد شفاعتها لما يعلمون من بركتها، وصدق أحوالها مع الله تعالى؛ فبفضل دعائها أطلق سراح أبي الحسن زوج الثانية وصاحب له بعد أن أسرهما البرتغاليون على إثر احتلال طنجة عام 869هـ/1464م."
ومن الأمهات الفاضلات في مجال التصوف كذلك نستحضر كلا من الفاطمة الفهرية التي أسست جامع القرويين بفاس، وأم محمد السلام بدكالة التي تنبأت بانتصار المسلمين على الإسبان في معركة الأرك أثناء اشتعالها بالأندلس، والمتصوفة الولية الصالحة ريسون التي كان لها دور كبير في فك الأسرى المغاربة . وهناك متصوفات أمازيغيات مشهورات في مجال الولاية والعرفان والبركة المنقبية والمحبة الإلهية، وقد ذكرهن محمد المختار السوسي في بعض كتبه القيمة ،  مثل: كتاب" المعسول"، وكتاب" رجالات العلم العربي في سوس"، وكتاب" من أفواه الرجال" ...
ونستحضر من بين هذه الصوفيات البربريات: تعزى بنت محمد تسملالت، وتكدا بنت سعيد، وتعزى بنت سليمان تكرامت،وتعزى بنت عبد العزيز تغرابوت، وحبيبة بنت محمد بن العربي، وحواء بنت يحيى الرسموكية، وخديجة بنت إبراهيم، ورحمة بنت يوسف، ورقية بنت محمد بن العربي الأدوزية، ورقية بنت سعيد بن محمد، وصفية بنت سعيد، وعائشة بنت صالح البعقيلية، وفاطمة موهدوز، وفاطمة بنت سليمان تكرامت، وعائشة التونينية، وعائشة الجشيتمية، ومماس بنت علي، وماماس تبويسكت، ونفيسة بنت محمد بن العربي، وموازيت، ومريم السملالية، ومريم بنت محمد بن سالم الصحراوية، ومريم بنت علي...
وهذه النساء المتصوفات الأمازيغيات اللواتي عشن ما بين القرنين العاشر والرابع عشر الهجريين كن ينتمين جميعهن إلى الطرق الصوفية المشهورة بالمغرب كالناصرية والدرقاوية والتيجانية...

5- التسامـــح الطبــقي:
ساهم التصوف بصفة عامة والتصوف الطرقي بصفة خاصة في إزالة الفوارق الطبقية، والحد من التفاوت الاجتماعي، فجمع بين الفقراء والأغنياء، والأقوياء والضعفاء، والساسة والرعية، فشكلوا صفا واحدا داخل المنظومة الصوفية العرفانية، وخاصة أثناء السفر لأداء فريضة الحج المباركة، وزيارة الأماكن المقدسة. فاستلزم كل ذلك أن يكون هناك نوع من التسامح الطبقي والاجتماعي بين جميع فئات المجتمع وطبقاته المتصارعة حول التملك الفردي، والإثراء المالي، والاستمتاع بالجاه والنساء. ويعني هذا أن التسامح الطبقي يتجلى واضحا في التضامن والتكافل والتعاون والتآزر الاجتماعي، ولاسيما في فترات الجفاف والنكبات والكوارث الطبيعية.  ومن هنا، فقد كانت الزوايا المغربية تطعم الفقير، وتكرم الضيف وابن السبيل، وتحسن إلى المسكين والضعيف. فقد كانت من جهة أخرى، تحارب الشح والبخل، وتحث الأغنياء ورجال السلطة على البذل والعطاء والإحسان للفوز بنعيم الآخرة وأجر الدارين.
وهكذا، فقد:" انخرطت شرائح واسعة من فئات المجتمع بالمغرب والأندلس في دعم مرتكزات التكافل، ومساعدة ضحايا الكوارث الطبيعية على تجاوز وضعياتهم الصعبة، انطلاقا من البعد الديني الذي يعطي للبذل والإنفاق قوة إيمانية نفسية تمثل شحنة إيجابية في تفعيل سلوكات التضامن الأفقي. وبما أن الكوارث أدت إلى مضاعفات سلبية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية، فقد حث العلماء والأولياء الأغنياء ومتوسطي الحال على الصدقة والإيثار والبر والإحسان لإغاثة منكوبي الكوارث."
هذا، وقد ساهم كثير من الأولياء والشيوخ المتصوفة في تحقيق التكافل الاجتماعي، وإزالة الضرائب أو التخفيف منها لحماية الفقراء والتجار على حد سواء، والمشاركة في بذل الخير وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمساهمة في تحقيق العدالة، واستتباب الأمن الداخلي والخارجي، وإصلاح المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا، وتحرير الأسرى المغاربة من سجون النصارى إبان العصر الوسيط.
وكان الأولياء والصلحاء المغاربة:" يشفقون على يتامى المسلمين، ويطعمون المسكين، ويفرجون كروب المعسرين " . ومن الأمثلة الدالة على ذلك أنه لما أصابت مدينة  أزمور مجاعة شديدة سنة 535هـ، انبرى الشيخ أبو حفص عمر بن معاذ الصنهاجي إلى إطعام  المتضررين منهم، فجمع:" خلقا كثيرا من المساكين، فكان يقوم بمؤونتهم، وينفق عليهم ما يصطاده من الحوت وغيره إلى أن أخصب الناس".
وقد أشاد التميمي بما يقوم به الأولياء الصالحون من خير وبذل وعطاء  أثناء مواسم القحط والجفاف لإعانة المتضررين، وإعالة الفقراء والضعفاء والمساكين، فقال:" كان بفاس مسغبة، وارتفع السعر، وكان عند عبد الحق عشر صحاف من قمح، فقال والدي لوالدتي: إذا جاء من يسأل لا ترده، وادفع له من ذلك الطعام، وتصدق منه كل يوم بما تيسر حتى خرجت الشتوة.
ويضيف عبد الحق:" وأقامت والدتي على الأكل من ذلك الطعام والصدقة منه أشهرا، ثم قال والدي لوالدتي:" كل ذلك الطعام حتى تعرف ما بقي منه، فأكلناه، فإذا هو على مكيله الأول، ولم ينقص منه شيئا بإذن الله".
وهناك من الأولياء من كان يستسقى به بركة ووساطة ورجاء وتوسلا، فالمفتي أحمد بن زرع خطيب جامع القرويين بفاس، طلب منه الناس:" سنة القحط الاستسقاء، فصلى بهم خارج باب الفتوح، وقدم بين يديه آله صلى الله عليه وسلم ليتشفع بهم- كما فعل عمر بن الخطاب بالعباس- فسقى الناس وحمد الله على إجابة دعائهم" .
وطلب أهل تادلا من الشيخ أبي زكريا أن يستسقي بهم، فأظهر هذا الولي الضعف والفقر والحاجة إلى الله، فرمى بقلنسوته جانبا، فقال مستعطفا:" يا رب هذا الأقرع يسألك الغيث، قال الراوي: فوالله ما نزل الناس عن ذلك المكان حتى مطروا مطرا غزيرا".
وكثيرا ما كان يلتجئ المغاربة إلى أوليائهم وشيوخهم للاستغاثة بهم استجداء واستسقاء واستمطارا إبان مواسم القحط والجفاف والكوارث الطبيعية كالتجائهم إلى أبي العباس السبتي، وأبي يعزى، وابن حرزهم، وابن العريف...

6- التسامــح السيـــاسي:
من المعلوم لدى الكثير من الدارسين والباحثين والمحللين السياسيين المغاربة أن التصوف الطرقي بالمغرب في الفترة الحديثة والمعاصرة كان يجمع العديد من المريدين الوطنيين والسالكين السياسيين من مختلف المشارب الفكرية، ويستقطب الكثير منهم من شتى المناحي الإيديولوجية والمنابع الفلسفية، ويضم أيضا الكثير من الفعاليات المنتمية إلى مجموعة من الأحزاب السياسية والمؤسسات النقابية المتنوعة. فقد ألفينا مثلا في الزاوية القادرية البوتشيشية أعضاء من حزب الاتحاد الاشتراكي إلى جانب أعضاء من حزب الأحرار، وأعضاء من حزب الاستقلال إلى جانب أعضاء حزب الأصالة والمعاصرة. وربما ستتحول هذه الزاوية في المستقبل - حسب اعتقادنا - إلى حزب سياسي ناجح، وذلك من خلال عملية استقطاب لأكبر عدد من المنتخبين والأصوات المرشحة، أو قد تصبح الزاوية ورقة رابحة أو وسيلة لجمع أكبر المريدين والأتباع لنجاح حزب سياسي ما لخوض اللعبة الانتخابية. بل أصبحت الزاوية اليوم أداة في يد الدولة، ووسيلة سياسية وقناة إيديولوجية فعالة لاستتباب الأمن الداخلي والخارجي، والوقوف في وجه الحركات الإسلامية سواء أكانت معتدلة أم متطرفة، وجبهة دفاعية لدرء مخاطر التطرف والإرهاب والتمرد الثوري. ومن هنا، فقد صرح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية الدكتور أحمد التوفيق أمام العموم بأن المغرب دولة مالكية المذهب، وأشعرية العقيدة، وتتخذ من التصوف السني لدى الجنيد مسلكا ومنهجا وطريقة.
ويعني كل هذا أن الزوايا والمدارس الطرقية قد ساهمت بشكل من الأشكال في خلق نوع من التسامح السياسي الحزبي والطائفي والنقابي داخل المجتمع المغربي، وحققت أيضا نوعا من التوازن والاستقرار والطمأنينة على المستوى السياسي، وذلك عبر تخليق المؤسسات السياسية، وتصويف الإطارات الحزبية والنقابية. ومن ثم، أصبحت الزاوية القادرية البودشيشية بالنسبة لبعض الأحزاب السياسية المغربية مرجعا فكريا ودينيا وإيديولوجيا، وأصبحت كذلك مركزا للإشعاع والنصح والاستشارة والتوجيه والتدبير والتخطيط.

7- التسامــــح اللغـــوي:
يلاحظ أن كثيرا من المتصوفة الأمازيغ قد انصهروا في الزوايا والرباطات والتكايا المغربية إلى جانب إخوانهم العرب، فشكلوا وحدة دينية ولغوية وروحية واحدة، فلم يمنعهم الاختلاف اللغوي أو العرقي من الاندماج في بوتقة عرفانية وتجربة حدسية واحدة أساسها المحبة الإلهية والعشق الرباني. بل نجد التصوف الطرقي قد جمع بين إثنيات بشرية متعددة بلغات مختلفة داخل منظومة عرفانية تضمحل فيها الأعراض الشكلية الثانوية، فيبقى الخلود للجوهر الرباني الخالد، ثم يثبت البقاء للذات السرمدية الأزلية الواحدة.
 وهكذا،  نجد مثلا  في الزاوية القادرية البودشيشية بمداغ إبان عيد المولد النبوي أو أثناء ليلة القدر المتصوف الفرنسي إلى جانب المتصوف الألماني، والمتصوف الإنجليزي إلى جانب المتصوف الإسباني، والمتصوف الأمازيغي إلى جانب المتصوف العربي، فتندمج اللغات كلها في لغة التصوف الرمزية . ثم، تنصهر تراكيبها في الحضرة الوجدانية الحدسية. ثم، تذوب مفرداتها في الجذبة الربانية الواحدة، حيث لا فرق فيها بين لغة وأخرى، ولا أفضلية فيها  للغة الإنجليزية على اللغة العربية، ولا فضل للغة العربية على اللغة الإنجليزية، فكل اللغات تذوب أمام الخشوع الرباني، وتنمحي أمام تجلي المعشوق، وانكشاف الوصل الإلهي.

8- التسامــح الطائـــفي:
حاولت مجموعة من الزوايا والمدارس والرباطات الطرقية أن تؤالف بين الطوائف المختلفة والمتناحرة والمتصارعة فكرا وسلوكا وعملا، وأن توحد بين الفرق الصوفية المتباينة مشربا وتوجها ومصدرا ومعينا داخل نسيج صوفي واحد كما فعلت الزاوية الفاضلية التي أسسها الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل بن مامين بالصحراء المغربية. فقد آخت بين جميع الطرق الصوفية المعروفة بالصحراء، ولم يفرق بينها:" لأنها آخذة لطريق الرسول(صلعم)، وهي طريقة واحدة كما يعلمه أغبى الأغبياء وأحرى أعلم العلماء، وحتى إن تعددت واختلفت فمرجعها كلها لأمر واحد وهو الفناء في مشاهدة الله، والنظر إليه عن كل ما سواه. لاسيما أن الظروف التي تعيشها الجماعة الإسلامية في هذه الفترة تقتضي الوحدة والاتحاد واليقظة والتمسك بالجماعة وتجنب كل ما يؤدي إلى الضعف والاستكانة..."
ولقد نظمت في هذا التسامح الطائفي الصوفي منظومة شهيرة تعبر عن هدف الزاوية الفاضلية بالصحراء في توحيد جميع الطوائف الصوفية حول طريقة واحدة تخدم الله والقوم :

إني مخــــاو لجميع الطـــرق            أخوة الإيمـــان عنـــد المتقي
ولا أفـــــــــرق لــــلأولـــياء            كمــن يفــــــــرق للأنبيــــــاء
قال تعالى المؤمنون إخــــوة           وعــدم التفريق فيـه إســــــوة
وانظر لمبدإ طرق والمنتهى            تعلـــم لما قلت بما قد يشتهـي
وذاك كلهم لــــــــــــك يقـول           عليـك باتباع فعل ذا الـرســول
عليه أفضل الصلاة والسلام            وهكـــذا تتبــــع منـــه للكــلام
ومستحيل أن يقــــــول اتبعا            طريقــــة النــبي وحـــده ثقــا
وغيرها ليست طريقا وثــق            إنــــي مخـــاو لجميع الطرق

وهكذا، فقد حاولت الطريقة الفاضلية للشيخ ماء العينين بالصحراء المغربية أن توحد بين جميع الطوائف والفرق الصوفية داخل طريقة عرفانية واحدة، وذلك لتحقيق التسامح الطائفي، وتفعيله قولا وفعلا وسلوكا، تفاديا لكل فرقة ممكنة، وخوفا من إثارة فتنة شائنة.

استنتاجات:

وهكذا، يظهر لنا أن التصوف بالمغرب سواء أكان تصوفا سنيا أم تصوفا طرقيا كان مبنيا في جوهره على فكرة العفو والتسامح والتعايش ومحبة الآخر، ونبذ العنف والكراهية والتطرف والإرهاب. ومن ثم، يمكن الحديث عن أنواع كثيرة من التسامح الصوفي والطرقي بالمغرب كالتسامح الديني والعقدي، والتسامح الطائفي، والتسامح اللغوي، والتسامح العرقي والإثني، والتسامح اللوني، والتسامح الجنسي، والتسامح الطبقي والاجتماعي، والتسامح السياسي والحزبي والنقابي.
وعليه، فلا يمكن للتسامح أن يتحقق في المجتمع العربي والإسلامي، ويتم تعميمه بين الناس إلا عن طريق التوعية الدينية الصحيحة، وممارسة التصوف العرفاني الوسطي، والانخراط في الزوايا والرباطات والمدارس الطرقية السنية المعتدلة لتهذيب النفوس البشرية المذنبة، وتزكيتها تحلية وتخلية وجلاء، وتخليق الضمائر قيميا ودينيا ووجدانيا.

د. جميل حمداوي
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية- المغرب-
jamilhamdaoui@yahoo.fr

 المقال منقول: http://almothaqaf.com/index.php/toleration/17493.html
.........................
الهوامــــش:

  - ابن منظور: لسان العرب، الجزء السادس، دار صبح،بيروت، لبنان، وأديسوفت بالدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص:333-334؛
2 - ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب بالرباط، جامعة محمد الخامس، رقم:22، الطبعة الثانية 1977م، ص:34،
3-  ابن قنفذ:: أنس الفقير وعز الحقير، تحقيق محمد الفاسي وأدولف فور، المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط،الطبعة الأولى 1965م،  ص:63؛
4- التميمي: المستفاد في مناقب العباد، بمدينة فاس وما يليها من البلاد، تحقيق محمد الشريف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد الملك السعدي، بتطوان، مطبعة طوب بريس، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2002م؛
5 - البادسي: المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، تحقيق أحمد سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1982م؛
6 - انظر ابن عاشر: متن ابن عاشر المسمى المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، تصحيح ومراجعة محمد خليل، دار المعرفة، الدار البيضاء، د. ت؛
7 - د. إبراهيم  القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:33-34 ؛
8 - د. إبراهيم  القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:33-50 ؛
9 -  د. إبراهيم  القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:43-44؛
10-  نقلا عن -  د. إبراهيم  القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:28؛
11- د. إبراهيم  القادري بوتشيش:(ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب)، ص:44؛
12-  د. إبراهيم  القادري بوتشيش: نفس المقال السابق، ص:32-33؛
13-  د. سعيد بنحمادة: (المجال الحيوي للأولياء بالمغرب: الأدوار الدينية والعسكرية والاجتماعية)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:145؛
14- انظر محمد حجي: الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي، المطبعة الوطنية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1964م؛
15- نقلا عن لحسن السباعي الإدريسي: حول التصوف والمجتمع، منشورات الإشارة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2007م، ص:57-58؛
16- منتصر حمادة: نحن والتصوف، الطريقة القادرية البودشيشية نموذجا، سلسلة شروق، العدد:3، نونبر 2009م، ص:60-74؛
17- د. سعيد بنحمادة:(المجال الحيوي للأولياء بالمغرب: الأدوار الدينية والعسكرية والاجتماعية)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:152؛
18-  الوزاني: الروض المنيف في التعريف بأولاد مولاي عبد الله الشريف، مؤلف مخطوط، الخزانة العامة بالرباط رقم 2304ك، ورقة 76ب؛
19- د. محمد البركة:(التصوف السني بالمغرب: مقدمات في الفهم والتأصيل)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:90-91؛

20-  مؤلف مجهول: مفاخر البربر، تحقيق: عبد القادر بوباية، دار أبي رقراق، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2005م، ص:175؛
21- ابن عسكر: دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، دار المغرب، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1977م، ص:24؛
22-  ابن عسكر: دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، ص:32-24؛
23- انظر: لمين مبارك: (المرأة العالمة في سوس من خلال بعض مؤلفات العلامة محمد المختار السوسي)، مجلة المناهل، الرباط، المغرب، عدد: 7/74، أكتوبر 2005م، ص:385-397؛
24- انظر: العبادي الحسن: الصالحات المتبرك بهن في سوس، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2004م؛
25- انظر: مبارك آيت عدي:  (جهود المرأة الأمازيغية بسوس في الحفاظ على التراث الصوفي من خلال بعض كتابات العلامة محمد المختار السوسي)، مجلة المناهل، المغرب، الجزء الثاني، العددان:82-83، شتنبر2007م، ص:362-366؛
26- د. عبد الهادي البياض:(تجليات المقاربة الوسطية في منهج التكافل الاجتماعي لمتصوفة مغرب العصر الوسيط)، التصوف السني في تاريخ المغرب، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:27، الطبعة الأولى سنة 2010م،ص:235؛
27-  البادسي: المقصد الشريف، ص:21؛
28- ابن الزيات: التشوف، ص:183؛
29-  التميمي: المستفاد في مناقب العباد، بمدينة فاس وما يليها من البلاد، الجزء الثاني، ص:121؛
30- ابن الأحمر: بيوتات فاس الكبرى، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1972م، ص:63-64؛
31-  ابن الزيات: التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي،، ص:138-139؛
32- منتصر حمادة: نحن والتصوف، الطريقة القادرية البودشيشية نموذجا، سلسلة شروق، العدد:3، نونبر 2009م، ص:31؛
33- ماء العينين النعمة علي: (مدرسة الشيخ ماء العينين الصوفية: خصائصها ومميزاتها)، مجلة المناهل، المغرب، الجزء الثاني، العددان:82-83، شتنبر2007م، ص:229؛
34- ماء العينين النعمة علي: (مدرسة الشيخ ماء العينين الصوفية: خصائصها ومميزاتها)، ص:230.

الجمعة، 23 أكتوبر 2015

الدعاء الناصري-قناة الزاوية الناصرية


الزاوية والمجتمع القبلي والمخزن


الزاوية والمجتمع القبلي والمخزن

(الزاوية الدرقاوية نموذجا)
عبد الله استيتيتو
  تمهيد :
 يقال : "إذا كانت بلاد المشرق هي بلاد الرسل والأنبياء، فإن بلاد المغرب هي أرض الصالحين والأولياء". هذه المقولة لم تولد من فراغ وإنما لها مبرراتها وبراهينها الواقعية والموضوعية المتمثلة أساسا في أركيولوجيا الزوايا والرباطات والأضرحة والمشاهد والمزارات التي تؤرخ لأولياء الله الصالحين في المغرب الذين احتضنتهم الأراضي المغربية بكل طبقاتهم ومقاماتهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد الآخر، فغطوا بواديها وحواضرها، وملؤوا جبالها وسهولها، وعمروا شمالها وجنوبها وشرقها وغربها؛ وبذلك صارت الزوايا مدخلا من المداخل الرئيسة في حفريات ماضي المغرب بكل عناصره ومكوناته المادية والمثالية نظرا إلى تجذرها في أعماق المجتمع والدولة؛ بحيث لا يمكن فهم هذا الماضي دون استحضار هذا العنصر الذي ظل بمثابة نهر مسترسل يغذي باقي الحقول المعرفية الأخرى عبر روافد حية وقوية ساهمت في بلورة جزء كبير من مظاهره وقضاياه، وخاصة في بعض المناطق والجهات المغربية التي اعتبرت بمثابة مستنبت لشيوخ الزوايا ورجال التصوف وأهل المقامات والطرق، كما نلمس ذلك في جنوب شرق المغرب وخاصة بمنطقة تافيلالت.
2- الزاوية وجغرافية المقدس في المغرب
      يعتبر استقصاء الزوايا المغربية حلقة من حلقات أركيولوجيا جغرافية المقدس في بلاد المغرب، سواء ما بعد التواجد العربي الإسلامي في بلاد الأطلس، أو ما قبله؛ لأن المزارات والمشاهد والأضرحة المتواجدة بالأراضي المغربية لا تقتصر فقط على الفترة الإسلامية؛ بل سبقتها بقرون مطولة؛ بحيث تسجل لنا الأعمال التي تؤرخ لهوية وذاكرة المجتمع المغربي ما قبل الفتح العربي الإسلامي، أن المجتمع الأمازيغي ظل دوما مرتبطا بعدد لا يستهان به من المزارات المقدسة، منها ما هو وثني، ومنها ما هو يهودي، وقليل ما هو يسوعي([1]). وما زالت بعض المناطق المغربية لحد الآن تؤرخ لجغرافية المقدس ما قبل الإسلام كما هو معلوم في منطقة أسجن بشمال المغرب قرب مدينة وزان، وأيضا في موكَادور    (الصويرة) وفي مدينة سجلماسة التاريخية؛ حيث يتقاطر على هذه المناطق آلاف اليهود سنويا من أجل التبرك بمزاراتها ومشاهدها.
الخلفيات التاريخية للزوايا في المغرب ما قبل درقاوة
ارتبط ظهور الزوايا في المغرب الإسلامي أساسا بظروف سياسية وتاريخية واجتماعية خاصة، كالفراغات السياسية التي كانت تنتج عن غياب السلطة المخزنية المركزية، أو تعرض البلاد إلى كوارث طبيعية مزلزلة كموجات القحط والجراد والفيضانات، أو تعرض المجتمع لتهديدات خارجية حقيقية مشرقية وأوربية؛ فاستغل أهل الطرق وشيوخ الزوايا مختلف هذه الأوضاع في المغرب، وتحركوا من أجل تعبئة المجتمع واستنهاضه ضد ما يحدق به من أخطار. فاعتبرت مؤسسة الزاوية خاصية من خصائص تاريخ المغرب الذي لا يمكن تناول أية فترة منه، أو أي حدث من أحداثه، دون أن نأخذ بعين الاعتبار حضور الزاوية والطرق في تشكيل جزء كبير منه، وهو ما جعل الكتابات التاريخية حول المغرب تبقى متفطنة ومدركة ما لهذا المعطى من أهمية في تفسير الكثير من الظواهر والقضايا التي يحفل بها التاريخ المغربي، معتبرة أن الطرقية تبقى منذ قرون الشكل الأكثر عمومية والأكثر شعبية والأكثر حيوية في المغرب الإسلامي([2])، منذ أن اختمر الفكر الطرقي في البلاد المغربية وتجذر في أوساطه الشعبية بواسطة الطريقة الشاذلية على يد مؤسسها الأول أبي الحسن علي الشاذلي في القرن 13م([3])، فازداد دور الزوايا أهمية في تاريخ المغرب بعد القرن 14م  بفعل ضعف السلطة المركزية المخزنية المرينية والوطاسية من جهة، وبفعل الهجمات المسيحية الأيبيرية على الأراضي المغربية من جهة ثانية، وما كان لها من وقع في نفوس المغاربة الذين وجدوا في أهل الزوايا متنفسا لهم لقيادة عملياتهم الجهادية ضد الاحتلالات الأجنبية المتواصلة، ومن ثم بات من الصعب الفصل بين الديني والسياسي لدى هذه الزوايا وخاصة بعد ظهور الطريقة الجزولية التي أسسها زعيمها محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر الجزولي المتوفى عام 1465م/870هـ([4])، والذي ساند قيام الإمارة السعدية وكان من البدائل الهامة التي اعتمدها المغاربة للخروج من هول الصدمة الأيبيرية([5]) بعد احتلال العديد من المدن والمناطق المغربية كأﮔـادير(1405م) ومليلية(1509م) وسبتة (1415م) وغيرها([6]).
ترك الشيخ الجزولي العديد من المريدين والأتباع؛ مثل عبد العزيز التباع الذي يعد كبير تلامذته، وهو من الرجال السبعة في مراكش(ت.1508م). كما ظهر في نفس الفترة الشيخ زروق الذي كان حيا إلى غاية 1519م، والذي أسس الطريقة الزروقية. ومن بعده ظهر الشيخ مولاي عبد الله الشريف مؤسس الزاوية الوزانية، وهو من أحفاد يملح بن مشيش، الذي صادف ظهوره قيام الدولة العلوية بتافيلالت، وتوفي عام 1678م([7])، والذي لم تكن طريقته سوى  طريقة سلفه مولاي عبد السلام بن مشيش وتلميذه أبي الحسن علي الشاذلي. وفي العهد العلوي أيضا ظهرت بالمغرب" ثلاث طرق صوفية متتابعة اكتسحت الأرض كالأمواج المتوالية وغطت مجموع جهات المغرب، وهي: الناصرية والدرقاوية والتجانية"([8]).
كان للزاوية أدوار كثيرة في المجتمعات المغربية؛ كتفقيه الناس في أمور دينهم من خلال دروس الوعظ والإرشاد، وتلقينهم مفاهيم الطريقة من حيث الأوراد والأذكار التي تميزها عن باقي الطرق الأخرى، بجانب هذه المهام الدينية كانت الزاوية تقدم دروسا في الآداب والحكمة. أما في المناطق التي بها تمثيل ضعيف للسلطة المخزنية أو غياب لهذه السلطة، فإن الزوايا كانت تقوم فيها بالأدوار التحكيمية في النزاعات والخلافات بين القبائل([9])، وكانت تملأ الفراغ السياسي الذي يخلفه غياب السلطة المخزنية وخاصة في المناطق الحدودية النائية؛ مثل مناطق الجنوب الشرقي؛ بحيث لعبت الزوايا هناك أدوارا طلائعية في تأطير السكان واستنهاضهم ضد الغزو الفرنسي للأراضي المغربية، كما كان للزاوية حضور هام في تحديد مجالات الرعي والانتجاع وتوزيع المياه في المناطق الصحراوية، وبذلك فالزاوية تم الاعتراف بها كمكان مقدس، له حرمة لا يمكن انتهاكها بأي حال من الأحوال، فظلت قبلة للملهوفين، وملجأ آمنا للهاربين والفارين من التسلط المخزني أو من العقوبات الثقيلة المفروضة عليهم، الشيء الذي جعل الزوايا ذات حساسية كبيرة بالنسبة إلى ممثلي المخزن؛ كالخلائف والعمال والقياد، الذين بدأوا يتقربون منها لاستغلالها في ضبط مجالاتهم القبلية، فظل شيخ الزاوية دوما آلية من آليات استمرار قياد المخزن في القيام بوظائفهم؛ لأنه يضفي عليهم نوعا من الشرعنة، ويزكيهم لدى السلطان وخليفته ما دام هؤلاء الصلحاء والمرابطون يتوافرون على تزكية دائمة من خلال ظهائر التوقير والاحترام التي كان يخصهم بها سلاطين وملوك الدولة المغربية من حين لآخر([10])، إدراكا منهم للأدوار الحيوية التي تلعبها هذه المؤسسات بالنسبة إلى دعم السلطة المركزية في المجالات القبلية، التي كان من الصعب على المخزن اقتحامها لولا هذه الزوايا التي أسهمت في تحقيق الوحدة السياسية للبلاد في ظل التواجد المخزني، وخاصة بعد التغلغل الأجنبي في المغرب([11])، إلى درجة أن بعض شيوخ الزوايا تحولوا إلى قياد مخزنيين؛ كما كان الحال مع شيخ زاوية تازروالت ابن الحسين بن هاشم، الذي عينه السلطان مولاي الحسن قائدا على منطقة تازروالت عام 1886م/ 1304هـ، وبذلك استطاع التحكم في مجال قبلي ضخم وصعب المراس، يتكون من عدة قبائل غاية في الخطورة؛ مثل قبائل ماسا، وقبائل آيت باعمران، وقبائل مجاط، وأهل الساحل، وإيدا وطيط، وقبائل أخصاص، وغيرها([12])، ونفس الشيء قام به السلطان المولى الحسن الأول تجاه الزاوية الناصرية عندما عين عليها الشيخ محمد الحنفي لمساعدته على ضبط الشؤون الدرعية([13]).
الزاوية الدرقاوية: النشأة والتوسع
   تعود الجذور التاريخية للزاوية الدرقاوية إلى القرن 18م/12هـ، وذلك منذ تأسيسها في شمال المغرب بمنطقة أمجاط من قبل مؤسسها الأول، وهو مولاي العربي الدرقاوي، شريف من أصل بني زروال، عاش في الفترة ما بين1732م/1150هـ و1823م/1239هـ([14]). يطلق اسم درقاوة على كافة أتباع الزعيم الروحي للطريقة الدرقاوية أبي عبد الله محمد بن يوسف أحد شرفاء الآدارسة، والذي كان يعرف أيضا بـ"بودرقة"؛ أي صاحب الدَّرَّاقة، وهي واقية تقيه من السهام أثناء المعامع والحروب، فكان دوما ملازما لهذه الدراقة إلى أن توفي على ضفاف نهر أم الربيع بالشاوية في المنطقة المعروفة ببلاد تامسنا([15]).
منذ أن تأسست هذه الزاوية  في المغرب، انخرطت بقوة في الحقل الديني، قبل أن تمزج ما بين السياسي والاجتماعي والروحي على خلفية الأحداث التي عرفها المغرب والجزائر خلال النصف الأول من القرن 19م/13هـ، وخاصة التدخل الفرنسي في الجزائر 1830م/1246هـ، وتحرش السلطات الفرنسية بالبلاد المغربية، في وقت بدا فيه المخزن دون مستوى المرحلة، بعدما انهزم أمام القوات الفرنسية في معركة إيسلي (1844م) والتي كانت فيها الخسارة على كل الأصعدة، والتي أعطت، أيضا، الضوء الأخضر لباقي مكونات المجتمع لسد الفراغ المهول الذي بات يفرزه الضعف المخزني، سيما بعد التنازلات الخطيرة التي قدمتها السلطة المخزنية للمحتلين الأجانب من خلال اتفاقية للامغنية 1845م/1262هـ؛ مما جعل الزوايا تتعملق في المجتمع وتتجذر في أنسجته، فالتفّت العديد من الشرائح الاجتماعية حول المتصوفة وأهل الطرق والزوايا، وخاصة الزاوية الدرقاوية التي أعلن ممثلوها ( شيوخ، مريدون، أتباع، طلبة، متعاطفون...) عن رفضهم القاطع لتفويت أجزاء من بلاد الإسلام إلى السلطات المسيحية في الجزائر، وبهذا الموقف الراديكالي غير القابل للتململ تجاه النصارى صار مد الزاوية قويا، فوصل صيتها وإشعاعها إلى بلاد الجزائر نفسها؛ بل تعدى القطر الجزائري فتبناها أهالي تونس، ثم أهالي طرابلس وحتى المصريون، وأكثر من ذلك، صارت من بين الطرق الأكثر شعبية في بلاد الحجاز؛ وهو ما أكسب المقيمين عليها حرمة كبيرة وهيبة عظيمة في الأوساط الشعبية وداخل الدوائر السياسية العليا للسلطة المخزنية نفسها، التي باتت تأخذها على محمل الجد، وتعاملها كطرف له وزنه في الساحة السياسية، ويلعب دورا طلائعيا في تأطير الجماهير وضبطهم، ومن ثم بدأت السلطة المركزية تفكر في كيفية مهادنتها واحتوائها([16]).
تعد الطريقة الدرقاوية مذهبا صوفيا سنيا لا يشترط الخلوة والانزواء في المغارات والكهوف، ولا يقر الانطواء على الذات في قمم الجبال وتخوم الفيافي، كما أنها طريقة لا تعول على الممارسة الماضوية، ولا تقبل بمظاهر الشعوذة والابتداع والمروق عن المذهب السني؛ بل هي طريقة واقعية تؤكد على عبادة الله بالشكل الصحيح، وخشيته سرا وعلانية، كما تلتزم بالتباع النبي محمد (ص) في أفعاله وأقواله وتقريراته، والتشبث بسنته، والتحلل من أمور الدنيا، والرضا بقدر الله وقضائه، والتوكل عليه وحده في السراء والضراء. أما كل من حاد عن هذا الخط، وخالف هذا النهج،  فهو لا ينتسب إلى هذه الطريقة لا في الشكل ولا في الجوهر؛ وبذلك يظهر أن الدرقاوية استضمرت الملامح الكبرى للطريقة الشاذلية التي انتشرت في المغرب منذ القرن 13م على يد شيخها أبي الحسن علي الشاذلي، تلميذ مولاي عبد السلام بن مشيش([17])، والذي يعود إليه الفضل في تفريخ عدد هائل من الزوايا والطرق الصوفية في المغرب تسير على النهج الشاذلي.
انتقال الفكر الدرقاوي إلى جنوب شرق المغرب:
 راهنت الزاوية الدرقاوية كثيرا على مفهوم الجهاد، والاعتزاز بالإسلام والموت من أجل حماية داره والحفاظ عليه، فانتقل ثقلها من المناطق الداخلية للمغرب إلى المجالات الحدودية؛ كما هو الحال في جنوب شرق المغرب، في ظرفية صعبة وعسيرة اتسمت بالتحولات الدولية التي أثرت بشكل واضح على المغرب، وخاصة المنافسة المسعورة بين الدول الأوربية حول المستعمرات في إفريقيا وآسيا، فبدأت الإيالة الشريفة تخضع لضغوط استعمارية على شتى الأصعدة، واتخذ المستعمر عدة وسائل وأساليب للتوغل في بلاد المغرب كالوسائل المالية والتجارية والدبلوماسية والدينية( التبشير) وحتى العسكرية، للضغط على السلطة المخزنية من أجل تقديم المزيد من التنازلات تجاهه والقبول بمخططاته وإملاءاته، وخاصة بعد احتلال الفرنسيين للجزائر عام 1830، وشروعهم في توسيع مستعمرتهم الجديدة غربا على حساب التراب المغربي. كان ذلك من بين العوامل الحاسمة في استقطاب الفكر الطرقي جنوب شرق المغرب، وتكتل القبائل حول شيوخ الزوايا وأهل الطرق هناك من أجل مجابهة الفرنسيين والتصدي لهم([18])؛ ومن أهم الطرق التي بات لها حضور وازن في تلك المجتمعات القبلية، نجد الطريقة الدرقاوية التي أصبح لها وجود وحضور مؤسساتي، وخاصة في منطقة مدغرة التي تعتبر صاحبة الفضل الأول في انتقال الفكر الدرقاوي من شمال المغرب(فاس) نحو الجنوب الشرقي وذلك عن طريق ابن القاضي المدغري الشهير، سيدي محمد بن الهاشمي. هذا الابن هو سيدي محمد بن العربي([19]) المزداد بقصر مدغرة  عام 1801م/1216هـ، وينحدر من أسرة شريفة لها مكانتها المتميزة ضمن باقي أهالي منطقة مدغرة والرتب وقصر السوق وكل التجمعات السكانية على ضفتي زيز الأعلى والأوسط([20]).
 تفيد الروايات التاريخية أن سيدي محمد بلعربي توجه إلى جامع القرويين بفاس  للتبحر في العلوم والاحتكاك بأهل الصنائع وفطاحل الشيوخ. وبعد دراسته في العاصمة العلمية لمدة طويلة عاد إلى بلاد مدغرة، على الضفة اليسرى لزيز الأوسط وهو يتحرق شوقا لنشر ما تيسر له من العلم والمعرفة بين أهاليه، سيما وأنه تأثر في فاس بالفكر الصوفي الدرقاوي، فأسس قرب مسقط رأسه زواية رحمة الله الدرقاوية، ثم أسس زاوية ثانية في تافيلالت جنوب السفالات وهي زاوية ﮔـاوز قرب قصر تينغراس التاريخي، فاتخذ سيدي محمد بلعربي زاوية رحمة الله مقرا له، وعُرف بـ"الرجل الصالح الناصح المخلص العابد الزاهد الداعي إلى ربه بقلبه وقالبه...وكان من التواضع وعدم الاستشراف للرياسة بالمكانة التي يغبط عليها...فقد كان هذا الشريف كله غيرة وشعلة نار في وجوه المستعمر وهو من عباد الله الصالحين"([21])، ولهذه المكانة العلمية والروحية والخصال العالية، صار لسيدي محمد بلعربي في المنطقة صيت قوي، جعل الطلبة والمريدين يتوافدون عليه من كل ضواحي الجنوب الشرقي المغربي، ومنهم من كان يتقاطر عليه من جنوب غرب الجزائر المحتلة؛ بل إن شهرة هذا المتصوف المدغري الدرقاوي سرعان ما طفقت الآفاق ووصلت إلى بلاد الكنانة وبلاد ما بين النهرين؛ إذ وفد عليه أهالي بغداد في زاوية رحمة الله للأخذ عنه والاغتراف من مناهله، فصار وحيد منطقته على مستوى الأتباع والشهرة، كما أضحى تلامذته يعدون بالآلاف([22]).
  أصبحت الزاوية الدرقاوية أهم مكون للحقل الصوفي والمشهد السياسي في جنوب شرق المغرب، وصارت مؤهلة للعب أدوار حاسمة في الدعوة إلى الجهاد ومكابرة الأعداء المسيحيين، إلى حد أن إشعاعها الروحي ونفوذها السياسي ألقيا بظلالهما على الأدوار المخزنية في مجتمعات الجنوب الشرقي؛ لذلك لم تتوان السلطة المخزنية بتافيلالت في مغازلة الزاوية الدرقاوية في ﮔـاوز([23])، وخاصة بعد ما انتقل ثقلها إلى داخل القصور الفيلالية، وبات لها العديد من الأتباع هناك، فلم يعد بالإمكان الفصل بين أدوارها السياسية والروحية([24]) بعد ما اتضحت النوايا السيئة للأوربيين تجاه المغرب غداة حربي إيسلي وتطوان، وما وازاهما من اتفاقيات ومعاهدات مذلة للسيادة المغربية؛ مثل معاهدة للا مغنية 1845م والاتفاقية المغربية الإنجليزية 1856م والاتفاقية المغربية الإسبانية 1860-1861م والاتفاقية المغربية الفرنسية 1863م وصولا إلى مؤتمر مدريد1880م الذي فرض الحمايات القنصلية على المخزن، وفوت جزءا من المجتمع المغربي لصالح الأجانب.
الزاوية الدرقاوية والدعوة إلى الجهاد:
 أمام هذه الدسائس الخطيرة التي كانت تحاك ضد المغرب بهدف السيطرة عليه والتدخل في شؤونه، وبعد إقرار المخزن المغربي بالأمر الواقع تحت ذريعة عدم السباحة ضد التيار الجارف، قام سيدي محمد بلعربي الدرقاوي  بدق ناقوس خطر الوضع السياسي في المغرب، منبها لمخاطر التواجد الأوربي على السواحل المغربية بدعوى القيام بالأنشطة الاقتصادية التجارية والفلاحية، مؤكدا أن الوضع يستدعي تأهب المجتمع لممانعة النصارى، ومحذرا الناس بأن "مقدمة البوار الأمن من عدو الدين وعدم المبالاة بما يفعله في أرض المسلمين، وترك التفطن إليه حتى يصير يأمر وينهى ويمتثل أمره في سواحل أهل الإيمان والدين، ولا يتفطن إليه وينتبه حتى يتفاقم الواقع ويتسع الخرق على الرقع"([25])؛ كما دعا إلى الجهاد ومحاربة النصارى وعدم الالتزام بالاتفاقات والمواثيق التي وقعها المخزن معهم، بعد ما اكتوى بنيرانها نظرا إلى قربه من الحدود الجزائرية، فشرع في مكاتبة قصور مدغرة، وتافيلالت، والرتب، والزوزفانة، والساورة، وﮔـير، وصولا إلى فـﮔـيگ، "مكاتب كلها حث وتحريض على الدفاع عن الإسلام وحماية الوطن"([26])،  وبدأت رسائله الجهادية تقتحم مجالات قصية ومجتمعات نائية "كأهل سوس والصحراء وقبائل البربر كبني مـﮔـيلد ونحوهم [ يأمرهم ] بالتحريض على الجهاد والنهوض إليه"([27])، ودعا إلى مقاطعة البضائع الأجنبية وعدم المتاجرة مع النصارى، بعد ما لاحظ أن الفرنسيين يتخذون من التجارة سبيلا للتغلغل في الأراضي المغربية ومخالطة المغاربة وتعويدهم على معاشرتهم والتعامل معهم في انتظار السيطرة النهائية على البلاد المغربية، فأصدر في هذا الشأن عددا من الفتاوى يحرم فيها هذا التعامل ويحظر فيها هذه التجارة، حاثا كافة القبائل والحواضر على عدم تمكين العدو من سلع حيوية "من خيل وإبل وبارود وشياه وبهائم وثياب وصوف وغير ذلك، بعد ما بلغنا أنهم قطعوا الكبريت على المسلمين منذ زمان وكثرت علينا الأخبار والمراسلات بهذا الأمر، ولم يبالوا ولم يتنبهوا ولا تفطنوا لما أصابهم، وأحزننا ذلك غاية وأكربنا غاية...وخفنا على ما بقي من هذه الأمة أن يقع لها ما وقع لجزيرة الأندلس وغيرها من مدن الإسلام"([28])، ولم يفت هذا الشريف المدغري التنديد الشديد بكل من يعمل لدى الفرنسيين من أبناء تافيلالت وأهالي الجنوب الشرقي ضمن الأوراش الخاصة بمد السكك الحديدية شرق فـﮔـيگ، وتعبيد الطرق غرب الجزائر، فأصدر في هذا الصدد أيضا فتاوى تحرم ذاك العمل وتجعله باطلا ومغضبا لله ولرسوله، فكان يحذر القبائل الفيلالية وغيرها "من إعانة النصارى بأي خدمة كانت"([29])، فكان لنداءاته وقع كبير في نفوس السكان بالمناطق الحدودية، إلى درجة أن السلطات الفرنسية استشعرت مدى التجاوب الكبير الذي أبدته القبائل تجاه هذا المرابط، وخاصة عند ما بدأ ينشر بعض المناشير تدعو المجاهدين إلى التصدي للنصارى الفرنسيين ليس فوق التراب المغربي وحسب؛ بل داخل التراب الجزائري أيضا، باعتبارهم كفارا يهددون الإسلام في المغرب بعد ما اقتحموه في الجزائر([30])، مما جعل السلطة الفرنسية تتابع باهتمام زائد أنشطة الشيخ المدغري، وترصد حركاته وسكناته عبر عيونها المبثوثة في جنوب شرق المغرب؛ إذ أشار القنصل الفرنسي في طنجة يوم 12 أبريل 1888م أن لمولاي العربي الدرقاوي اتصالات ومكاتبات مكثفة مع القبائل الصحراوية من سوس إلى وادي نون، وأن مجمل القبائل استجابت لدعواته([31])، ناهيك عن اتصاله بقبائل آيت عطا وآيت يافلمان؛ بل كانت له مراسلات خارج الإمبراطورية الشريفة في اتجاه الجزائر،  وتونس، وطرابلس، ومصر، وكانت مضامين هذه المراسلات تتمحور حول الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالمخزن المغربي الذي وُصِف بالرعديد والجبان والمتردد في اتخاذ موقف حازم تجاه الفرنسيين الغزاة، وأن على السكان بكافة أطيافهم أن يأخذوا المبادرة بأنفسهم، ويهُبّوا للدفاع عن شرفهم دون انتظار أوامر من السلطة المركزية([32])؛ مما جعل المغرب يخضع لانتقادات خارجية لاذعة وخاصة من قبل الفرنسيين([33])، الذين مارسوا ضغوطات شديدة على السلطان مولاي الحسن(1873-1894م)، حاثين إياه على لجم الشيخ المدغري، الشيء الذي أحرج كثيرا الأجهزة المخزنية، التي بادرت إلى طمأنة الفرنسيين بأن القبائل الحدودية تحت سيطرة المخزن ولا تأبه بدعاوى الدرقاوي، وهي تحترم الهدنة الموقعة بين الطرفين([34])، كما أن بوعمامة الجزائري استغل هذه الأجواء الجديدة على خلفية مؤتمر مدريد واستطاع سنة 1881م/ 1299هـ أن يؤلب عددا هاما من القبائل المغربية ضد القوات الفرنسية في منطقتي الزوزفانة وفـﮔـيگ "خصوصا وأن صورته كزعيم لآخر مقاومة في الجزائر كانت لا تزال حية في أوساط القبائل المتعطشة لمثل تلك الزعامة"([35]). قام الثوار يهاجمون سلطات الاحتلال غرب وهران، فوجدها الفرنسيون فرصة من ذهب لفرض إملاءاتهم على المخزن وإخضاعه للأمر الواقع، من خلال بناء عدد من المراكز العسكرية المتقدمة بدعوى حماية المعمرين من هجمات الثوار الصحراويين؛ مثل مركز عين الصفراء، ومركز جنين بورزگ على بعد 50 كلم من فـﮔـيگ([36])، وبذلك ازدادت القبائل الحدودية تيقنا من النوايا الخطيرة للفرنسيين، فشرعت في استجماع قواها وتوحيد صفها عن طريق إحياء عهد "الخاوا" والقوانين العرفية المنظمة له([37])، وبدأت في شراء الأسلحة والبحث عنها بكافة الوسائل؛ كمهاجمة بعض المراكز الفرنسية والسطو على عتادها، فصارت الأجواء منذرة بانفجارات مهولة إذا لم يتم التصدي لها بنوع من الحزم والصرامة، سواء بالمناطق الحدودية في المجالات الخباشية والمنيعية، أو بالمناطق الداخلية كما هو الحال في مجالات اتحادية آيت يافلمان([38]).
الزاوية الدرقاوية والسلطة المخزنية  
استغل الشيخ المدغري كل هذه الظروف التي كانت تصب في صالحه، وكثف من مراسلاته ودعواته الجهادية، منتقدا في نفس الوقت موقف المخزن من الأخطار المحدقة بالسيادة المغربية، فلقيت نداءاته تجاوبا كبيرا من قبل المجتمعات القبلية في الجنوب الشرقي شملت قصور تافيلالت، والرتب، ومدغرة، وقصور فركلة، وتودغة، وصولا إلى مناطق الساورة، وسوزفانا، وأعالي ﮔـير؛ وبذلك أضحت أهم التكتلات القبلية الممتدة من السفوح الجنوبية الشرقية للأطلس الكبير إلى غاية الحدود المغربية الجزائرية متعاطفة إلى حد كبير مع الفكر الدرقاوي، ومعادية للتصور المخزني، ولم يعد بإمكان مولاي رشيد، الخليفة السلطاني في تافيلالت، أن يتجاهل خطورة هذه التكتلات وانعكاساتها على السلطة المخزنية محليا ومركزيا، الشيء الذي جعله لا يتردد في إشعار أخيه السلطان مولاي الحسن بالوضع المرير والظرفية الدقيقة التي تمر بها المنطقة؛ لذا فإن السلطان لم يتوان عام 1882م/1300هـ في تنظيم حرْكة سلطانية قوية ضد المناطق المعنية، وخاصة ضد القبائل العطاوية وقبائل آيت يافلمان، لكبح جماحها وتطويعها([39])؛ كما حاول احتواء الفكر الدرقاوي ومحاصرته عبر بث التفرقة في صفوف أتباع ومؤيدي مولاي محمد بلعربي المدغري، من خلال التركيز على العناصر الشريفة وتقريبها من الأجهزة المخزنية، ناهيك عن إرساله لجملة من الرسائل السلطانية إلى أهالي تافيلالت يحثهم فيها على عدم إتباع الشيخ المدغري واصفا إياه بـ"الشخص الشرير الذي يقود المسلمين إلى الهلاك...وأنه عنصر للفتنة الذي لا يتبع طريق الشريعة"([40])؛ لكن المسألة كانت أعمق مما تصورته الأجهزة المخزنية؛ لأن جل فئات الصلحاء، والشرفاء، والعلماء، والفقهاء، كانت تسير في نفس الخط الذي سار عليه الشيخ المدغري فيما يتعلق باستنهاض الهمم والتحريض على الجهاد "فالتفَّت حولهم القبائل الأمازيغية والعربية لاعتقاد أبنائها الراسخ بصحة مواقفهم، باعتبارها مبنية على الكتاب والسنة، فلم يترددوا في الالتحاق بدعوة أي شريف، أو عالم، أو متصوف، رفع راية الجهاد"([41]).
 إن هذا الانتشار الكبير للفكر الدرقاوي في الجنوب الشرقي المغربي، جعل السلطة المخزنية تزاوج في تعاملها معه : تارة بالتقرب والمحاباة وتقديم التنازلات والامتيازات، وتارة أخرى بالتهديد والترهيب والوعيد، وهكذا حاول المخزن مقايضة مواقف مولاي العربي الدرقاوي عبر عطايا جزيلة مغرية؛ حيث خصص له السلطان مولاي الحسن منة حولية قدرها أربعون قنطارا من الحبوب، وكانت قيمة كل قنطار زهاء 1250 فرنكا فرنسيا؛ أي ما مجموعه خمسون ألف فرنكا فرنسيا في كل حول([42])، وبذلك حاولت الأجهزة المخزنية أن تحتوي زاويتي ﮔـاوز ورحمة الله الدرقاويتين كما احتوت الزاوية الزروالية في القنادسة([43]).
لكن هذه المحاولات المخزنية لم تحقق النجاحات المنتظرة منها بسبب اعتبارات موضوعيات وواقعية، أهمها تزايد حدة التغلغل الفرنسي في الحدود الجنوبية الشرقية، وخاصة في واحة توات. فازدادت بذلك خيبة القبائل الحدودية، وارتفعت حدة درجة احتقانها تجاه الأجهزة المخزنية المحلية والمركزية؛ مما حدا بقائد توات إلى طلب العون من الخليفة السلطاني مولاي رشيد في تافيلالت، حاثا إياه على ضرورة التعجيل بالقضية التواتية قبل فوات الأوان؛ بيد أن الوضع في تافيلالت كان يغلي فوق صفيح ساخن من جراء الفيضان المهول الذي خلفه وادي زيز في نهاية عام1886م/ 1305هـ الذي غمر العديد من القصور، وجرف المقابر، والأسوار، والحصون، والدور"ولم تبق بقعة إلا غرقت، ولا ساكنة إلا تحركت"([44])؛ وتلاه في العام الموالي تعرض المنطقة لموجة جراد خطيرة لم تعرف نظيرا لها، أتت على الأخضر واليابس، ولم تترك للناس مزروعا ولا مغروسا إلا قضمته، فقلت المحاصيل وجاع الناس ووَبَأوا([45] )، مما جعل كثيرا من الفئات المتضرر تتململ ضد مولاي رشيد، مطالبة المخزن بإعادة بناء قصورها وترميم أسوارها وحصونها، وتوفير ما يلزم من المؤن والحبوب والثمور، فكادت الهيعة أن تقوم لولا أن السلطان مولاي الحسن طمأن أهالي تافيلالت أنه سيزورهم في القريب العاجل([46])، كما أعطى أوامره لخليفته مولاي رشيد بالعمل على البدء في ترميم ما دُمر، وإصلاح ما خُرب([47] ).
كل هذه العوامل كانت تصب في صالح المسار الذي خطته الزاوية الدرقاوية لنفسها في علاقتها مع المجتمع القبلي والمخزن، فتقوى صفها، وانتشرت أفكارها وآراؤها، وعلت كلمتها، وباتت طريقتها تشكل تيارا سياسيا، وفكرا إيديولوجيا، يتعارض مع التصورات المخزنية فيما يتعلق بمعالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لسكان الجنوب الشرقي.
 هذه الأجواء المحتقنة في تافيلالت وضواحيها، لم يكن بمقدور الأجهزة المخزنية المحلية احتواؤها والسيطرة عليها، مما حتم على الجهاز المخزني التحرك بشكل مستعجل لتدارك الأمور قبل فوات الأوان؛ وبذلك نظم السلطان حركة عسكرية في اتجاه الديار الفيلالية، هدف من خلالها إلى تطييب الخواطر والتقليل من فورة السكان، وإرجاع المياه إلى مجاريها، وذلك إدراكا منه لمدى أهمية هذه المنطقة في ترسيخ دعائم حكمه؛ لذا زاوج في تعامله مع أهاليها -خلال هذه الزيارة وغيرها- بين أسلوبي الترهيب والترغيب؛ حيث ضرب خيام محلته أولا قرب قصري الريصاني وبوعام، وثانيا في المجال الممتد ما بين قصور الماطي، وتازكَزوت وزاوية سيدي الغازي. فأبدى للسكان حسن نيته في تعاطيه مع قضاياهم وشؤونهم؛ وذلك من خلال العطايا والهبات التي قدمها لهم والتي بلغت قيمتها مبالغ هامة جريا على عادة السلاطين العلويين الذين يبدلون سخاء كبيرا تجاه مهد دولتهم بتافيلالت([48])، ناهيك عن اهتمامه بترميم القصبات وتشييد القصور والمساجد، ومساعدة الأهالي على مد السواقي وحفر الترع، وحمايتهم من هجمات القبائل المجاورة([49]).
لكن هذه الزيارة السلطانية للريصاني لم تحقق نتائجها المرجوة بخصوص القضايا الحدودية، وخاصة مسألة توات التي وصلت إلى عنق الزجاجة، فكانت هذه الزيارة بمثابة صب الزيت على الفتيل داخل المجتمعات القبلية التي تعنيها الأزمة بشكل مباشر، والتي لم يبق أمامها سوى خيار الاعتماد على النفس والاستعداد للجهاد ومكابرة العدو النصراني، في الوقت الذي طفا على الساحة السياسية المغربية نقاش ساخن بخصوص الإصلاحات الجبائية الجديدة التي يعتزم السلطان إحداثها، ولا سيما مشروع "ضريبة الترتيب" الذي تم إعداده عام 1886م/1304هـ، الهادف إلى تضريب كافة الفئات الاجتماعية بما فيها الشريف والمشروف، يسهر عليه الأمناء والعدول بدل القياد والعمال؛ لكن هذا الإصلاح الضريبي سمي بـ"الإصلاح المستحيل"؛ نظرا إلى رفضه من قبل الشرفاء، والخاصة، والقياد، والعمال، والخلائف([50])؛ كما أن المحميين والأجانب كان لهم النصيب الأوفى في إثناء السلطان عن هذا النظام بعد الضغط عليه من قبل الحكومات الأجنبية؛ كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإسبانيا، وغيرها، التي كانت لها أطماع ومصالح كثيرة في الإمبراطورية الشريفة([51]).
 ازداد الوضع احتقانا في المغرب عامة وفي الجنوب الشرقي خاصة، وانعكس ذلك بشكل آلي على السلطة المخزنية في تافيلالت وضواحيها، ومنح الفئات المناوئة للمخزن فضاء أوسع وأرحب، وخاصة بالنسبة إلى الشيخ مولاي بلعربي الدرقاوي وأتباعه، وبعض القبائل الحدودية المتضررة من السياسة الفرنسية؛ مثل القبائل المنيعية والقبائل الخباشية، ناهيك عن الشيخ بوعمامة الذي ضيق عليه الفرنسيون كثيرا بالمناطق الحدودية المغربية-الجزائرية بعد بنائهم لسلسلة من المراكز العسكرية فوقها، مما دفع بوعمامة إلى التوجه نحو تافيلالت قادما إليها من تيكورارين، فحل ضيفا على الشيخ الدرقاوي  بزاوية ﮔـاوز، هذا الأخير كانت رسائله تصل إلى بشار وفـﮔـيگ ووهران وغيرها من المناطق في المغرب وداخل الجزائر المحتلة، فطلب منه بوعمامة العون والمساعدة لحركته الجهادية ضد النصارى؛ لكن بوعمامة لم يفلح في تحقيق أهدافه من خلال هذه الزيارة نظرا إلى الشبهات التي كانت تدور حول حركته، وبفعل تقلبات مواقفه بين التعامل مع النصارى ومجاهدتهم، كما أن الضغط الذي مارسه الخليفة مولاي رشيد على الشيخ المدغري المعتل بزاويته، كان من العوامل التي أفشلت مساعي بوعمامة الذي عاد إلى تيكورارين خاوي الوفاض([52]).
وفاة الشيخ الدرقاوي وقيادة تلامذته للمجتع القبلي جنوب شرق المغرب:   
 في هذه الظرفية الصعبة جنوب شرق المغرب، ألمت فاجعة كبرى بالمجتمع القبلي وبكافة العناصر الدرقاوية، بسبب وفاة شيخهم القطب مولاي محمد بلعربي الدرقاوي المدغري عام 1892م/1310هـ، فأحدثت وفاته ارتباكا في أحد أنشط فروع الطريقة الدرقاوية في كافة أنحاء الإمبراطورية الشريفة([53])؛ لكن الذي زاد من هيعة أتباع الشيخ الدرقاوي هو ما وصى به أبناءه فيما يتعلق بقيادتهم للزاوية؛ حيث أمرهم بعدم تزعمها، كما ألح عليهم في التخلي عن قيادتها([54])، وهو الأمر الذي جعل كل مريديه وتلامذته وأتباعه والقبائل المتعاطفة معه، يصابون بنوع من الذهول لغرابة هذا القرار وعدم واقعيته من جهة، ولخطورته من جهة ثانية؛ لأنه جاء في ظرفية دقيقة للغاية كان المجتمع القبلي في الجنوب الشرقي أحوج ما يكون لأبناء الشيخ؛ بغية قيادتهم وجمع كلمتهم أمام الضغط الفرنسي والتهديد المخزني المتزايدين([55])، فساد كثير من الحزن والأسى كافة أتباع الطريقة الدرقاوية، سيما وأنها كانت قد تجذرت في عمق المجتمعات القبلية برمتها وذلك بتفريخها لما يربو عن ثلاث وأربعين زاوية  انتشرت في دادس، وتودغة،  وفركلة ومدغرة، والرتب، وبوذنيب، وفي أغلب القصور الفيلالية([56]).
اعتقد المخزن المركزي والمحلي أن وفاة شيخ الزاوية الدرقاوية في تافيلالت سيهون عليه موقف القبائل في الجنوب الشرقي، فنظم السلطان مولاي الحسن زيارة لتافيلالت للمرة الثانية عام 1893([57])، حيث قام بمعاقبة الذين وردت عليه في شأنهم بعض المراسلات الخليفية؛ كالدرقاويين والمتعاطفين معهم، الذين باؤوا بسخطه وغضبه، فنكل بالكثير منهم، وانتقم منهم غاية الانتقام، إلى درجة أن مرافقه الطبيب الفرنسي ليناريس(Linares) وصف شيخ الزاوية الدرقاوية سيدي محمد بن أحمد أنه صار يعيش في حالة من العزلة والتهميش والمذلة في زاويته"مثل كلب في دار مهجورة"([58]).
   لكن السلطة المخزنية غاب عنها أن الفكر الدرقاوي الذي ثابر شيخ الزاوية الدرقاوية في تافيلالت على نشره، قد أثمر عددا هائلا من المريدين والأتباع المخلصين له غاية الإخلاص، والذين تمركزوا في الجنوب الشرقي، كل في مجال قبيلته، للعمل على استنهاض السكان على محاربة النصارى، ورفع راية الجهاد، وعدم الاعتراف بالسياسة المخزنية المهادنة للمستعمر؛ لذلك فرخ الجنوب الشرقي عددا لا يستهان به من رجال درقاوة الذين أسسوا جملة من الزوايا على الطريقة الدرقاوية، كزاوية دويرة السبع في المجال السغروشني التي أسسها زعيمها مولاي أحمد ولحسن السبعي السغروشني الذي يعتبر واحدا من التلامذة المخلصين للشيخ سيدي محمد بلعربي الدرقاوي([59])؛ حيث تتلمذ على يده لأيام طويلة في زاوية رحمة الله بمدغرة وزاوية كَاوز في تافيلالت، وكانت له به معرفة شخصية دقيقة، وكان يكن له احتراما ما بعده احترام. ثم هناك زاوية فركلة بقيادة الفقيه الشيخ سيدي علي الهواري الذي كان من الأتباع المخلصين للشيخ المدغري([60])، وزاوية تودغة التي كان يترأسها الفقيه أحمد المهدي الناصري([61])، ناهيك عن زوايا أخرى في كل من بومالن دادس، وقلعة مكَونة، وكَلميمة، وقصر السوق، والريش وغيرها من المناطق الأطلسية التي تشبعت بالفكر الدرقاوي، وتأثرت به منهجا وسلوكا، سيما وأن بداية القرن 20 امتازت باقتحام الفرنسين للجنوب الشرقي المغربي، فتحول هؤلاء الفقهاء وشيوخ الزوايا إلى زعماء قبليين ورجال بارود، وأصبحوا قادة للمجتمعات المغربية جنوب شرق المغرب، وخاضوا معارك مشهورة في الهوامش الصحراوية، كما هو الحال بالنسبة إلى مولاي أحمد ولحسن السبعي، الذي قاد معركة عديدة، مثل معركة المنابهة، والمنكَوب، و بوذنيب، وبوعنان، والجرف، وإفري، ومسكي الأولى والثانية، والمعاضيد([62] )، والذي استمر في قيادة المجاهدين ضد النصارى وكل من يسير في فلكهم إلى غاية 1917 عند ما سيطر الفرنسيون على الجنوب الشرقي المغربي بما في ذلك منطقة تافيلالت، قبل أن يتم طردهم منها في العام الموالي لتدخل الكثير من القبائل تحت سلطة متصوف آخر ذي نزوع سياسي، وهو مبارك بن الحيبن التوزونيني السوسي، ومن بعده خليفته بلقاسم النكَادي، وهما معا لم يخرجا عن الفكر الناصري والدرقاوي([63]).
   وبذلك يبدو أن الزاوية لعبت أدوارا حاسمة في تاريخ المغرب الحديث من خلال تأطيرها للمجتمع القبلي في الجنوب الشرقي المغربي لما يربو عن قرن من الزمن، واستطاعت أن تفرض نفسها على السلطة المخزنية محليا ومركزيا، كما أثرت بعمق على توجهات ومخططات السلطة الكلونيالية، التي اضطرت في كثير من الأحيان إلى تعديل استراتيجياتها وأهدافها بفعل الضغوط التي مارستها عليها مؤسسة الزوايا في مختلف المجتمعات القبلية.
منقول من مصدره:

http://www.aljabriabed.net/n94_06stitou.htm

الهوامش والإحالات:

[1]-Gabriel camps, Les Berbères: Mémoire et identité,2°Editions Errance, Paris, 1987, pp.143-195.
[2]-Terrasse H, Histoire du Maroc des origines à l'établissement du Protectorat, Casablanca, T.2, 1950, p.373.
[3]- هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي، ولد في قبيلة غمارة عام 1196م، وله نسب إدريسي. درس بفاس، والتقى فيها بتلاميذ الشيخ أبي مدين، ثم سافر إلى بغداد، فأوصاه أبو الفتح الواسطي هناك بالعودة إلى المغرب حيث يوجد قطب صوفي يتولى مشيخته، فعاد إلى جبل لعلام، وأصبح التلميذ الوحيد لمولاي عبد السلام بن مشيش، فانتقل بعد ذلك إلى منطقة شاذلة في تونس، وقضى بها ردحا من الزمن حتى سمي باسمها، وصار يعرف بالشاذلي، وتوفي عام 1258م. انظر، زكية زوانات، ابن مشيش شيخ الشاذلي، ترجمة من الفرنسية إلى العربية أحمد التوفيق، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006، ص ص127-128.
[4]-هو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر بن سليمان، بن داود، توفي عام 1465م، وهو من قبيلة جزولة بسوس الأطلس الصغير، درس بفاس بمدرسة الصفارين، ثم رحل إلى تونس والمشرق، وعاد بعد عدة أعوام إلى فاس، فألف كتابه "دلائل الخيرات" وبدأ ينشر طريقته في حاحا، فتجمع حوله آلاف المريدين؛ الشيء الذي أقلق خصومه الذين قاموا بقتله. نفسه، ص129.
[5]- Lmoubariki M, La résistance du Sud- Est Marocaine à la Pénétration Française 1906-1934, Thèse pour le Doctorat d'Histoire, Université Lumière  Lyon II,  Faculté de Géographie, Histoire, Histoire de l'Art et Tourisme, Année universitaire, ,1990-1991,( 2T). p.116.
[6] - Drague G, - Esquisse d'histoire religieuse du Maroc, Paris, 1951, p.50.
[7]- زكية زوانات، م.س. ص137.
[8]- نفسه، ص154.
[9]- أحمد التوفيق إينولتان، المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، ط.2، 1983.، ص368.
[10]- أحمد البوزيدي، درعة بين التنظيمات القبلية والحضور المخزني: دراسة في الحياة السياسية والاجتماعية، أطروحة لنيل شهادة دكتوراه الدولة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، 2004، ج.1، ص247.
[11]-Michaux Béllaire, « Essai sur l'histoire des confréries marocaines», Hesperis,vol.1, 2éme trimestre, 1921 p.185.
[12]- Drague G, p.92.
[13]- الهادي الهروي، م.س. ص123.
[14] - زكية زوانات، م.س. ص ص119-120.
- Sallem Ben M'Barek," Les Drquaouas", in Bulletin de la sociologie et de la géographie du Maroc, n°2, octobre novembre, 1961, Casablanca, pp.6-7.
[15] -Ibid, p.7.
[16] -Bellaire Michaux, Essai sur l'histoire des confréries marocaines, in Hesperis, T. 1, 2éme trimestre; 1921, p.156.
[17]- يعتبر مولاي عبد السلام بن مشيش هو مؤسس التصوف في المغرب، عاش ما بين 560-625 هـ/ 1165-1228 م، وكان له تلميذ وحيد هو أبو الحسن علي الغماري الزروالي الشاذلي الذي ورث أسراره الروحية والصوفية، والذي نحول إلى قطب من أقطاب التصوف في العالم الإسلامي في المشرق والمغرب، وتوفي في مصر عام 656 هـ/ 1258 م. انظر زكية زوانات، م.س. ص127-128.
[18]- حول الدور الجهادي للطريقة الدرقاوية والعلماء والمتصوفة في تافيلالت، ينظر محمد بوكبوط، مقاومة الهوامش الصحراوية للاستعمار ( 1880-1938) : صفحات مجهولة من صمود قبائل التخوم الشرقية من تافيلالت إلى وادي نول، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2005، ص ص9-22.
[19]- يعرف سيدي محمد بن العربي بين أهالي تافيلالت بـ"سيدي محمد بلعربي" ولذلك سنستعمل هذا الاسم كما تحدثت عنه الرواية الشفوية.
[20]- Drague G, Esquisse d'histoire religieuse du Maroc, Paris, 1951, p.285.
[21]- محمد بوكبوط، م.س. ص10، نقلا عن أحمد بن قاسم المنصوري، كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر، مخطوط حققه محمد بن لحسن، في إطار أطروحة دكتوراه دولة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال، 1997، ص392، ونشرته المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الرباط، 2004.
[22]-Odinot, Paul, L'importance politique de la confrérie Drqaoua, Résidence générale, n°.5, mai, 1929, p.294.
[23]-De Foucauld Charles, Reconnaissances au Maroc 1883-1884, Challemel, 1888, p.352.
[24]- Odinot, Paul, op.cit, p.293-295.
[25]- محمد بوكبوط، م.س. ص10.
[26]- نفسه.
[27]- نفسه، ص13.
[28]- نفسه، ص11.
[29]- نفسه.
[30] -يورد محمد المباركي في هذا السياق رسالة مطولة للشيخ سيدي محمد العربي الدرقاوي مؤرخة بعام 1887م ومسجلة بالخزانة العامة تحت رقم D3353، كلها تحريض على الجهاد وحث للناس على التصدي للنصارى وعدم الاكتراث بالتعاليم المخزنية الرسمية الخنوعة والذليلة، كما أن الرسالة متضمنة لأبعاد دينية محفزة للمجاهدين على الشهادة في سبيل الله. انظر نص الرسالة عند :
Lmoubariki M, op.cit, p.120.
[31]-Ibid, p.121.
[32]-Lacroix  N, Les Derkaoua d'hier et d'aujourd'hui, essai historique, Alger, 1902, p.20.
[33] -Jacques Berque, L'intérieur du Maghreb XV-XIV siècle, édition Gallimard, 1978,564 p), p.494.
[34]- انظر نص الرسالة التي بعثها السلطان مولاي الحسن إلى المفوض الفرنسي شارل فوري على يد النائب السلطاني بطنجة السيد محمد الحاج الطريس، أوردها الأستاذ محمد بوكبوط، م.س. ص13.
[35]- نفسه، ص 24.
[36]- نفسه، ص 24.
[37]- تحت يدنا وثيقة تجديد عهد "الخاوا" بين قصر أولاد عبد الرحمان في الغرفة وأهل تحموت من آيت خباش، ثم  وثيقة "الخاوا" والعهد بين بعض القبائل الخباشية. الوثيقتان معا عثرت عليهما في قصر مرزوكَة.
[38]- تحت يدنا رسالة بعث بها أحد قياد السلطان المولى الحسن إلى الأجهزة المخزنية بفاس يطلب منها أن تمده بالعون اللازم للتغلب على آيت عطا وآيت مرغاد وآيت حديدو وآيت ازدگ، ويستنجد بالمخزن ليقدم له المدد الضروري لتموين الحركة العسكرية ضد العصاة، وإلا فإن القبائل المتمردة سوف تزحف نحو القصابي وميسور ووطاط الحاج وتقضي على أمال المخزن في السيطرة على هذه المناطق (توجد نسخة من هذه الوثيقة بمركز الدراسات والبحوث العلوية بالريصاني).                
[39]-رسالة مخزنية توجد منها نسخة بنفس المركز.
[40]-رسالة من السلطان المولى الحسن الأول إلى سكان تافيلالت تبين موقف السلطان من مولاي بلعربي الدرقاوي، وهي رسالة أوردها محمد المباركي في المرجع السالف الذكر، انظر :
Lmoubariki M, op.cit, p.497.
[41]- محمد بوكبوط، م.س. ص9.
[42]- De Foucauld Charles, Reconnaissances au Maroc, Paris, 1888, p.352.
[43]- هذه الزاوية أسسها زعيمها الروحي الشيخ محمد بن عبد الرحمان بن بوزيان المنحدر من السلالة الإدريسية،  والذي عاش في نهاية القرن 17م، وتوفي عام 1733م/1146هـ. وتعتبر هذه الزاوية امتدادا طبيعيا للزاوية الناصرية في تامـﮔـروت؛ على اعتبار أن مؤسسها الأول سيدي محمد بن عبد الرحمان، تتلمذ لمدة طويلة على يد شيخ الزاوية الناصرية المقدم سيدي مبارك بن عبد العزيز. بعد وفاة سيدي محمد بن عبد الرحمان الزياني تعاقب أبناؤه على زعامة الزاوية الزروالية في القنادسة بدءا بمحمد الأعرج( 1773-1781)، ثم ابنه أبو مدين (1881-1799)، ثم عبد الله بن أبي مدين(1799-1825) فخلفه ابنه أبو مدين بن عبد الله (1825-1853)، ثم انتقلت قيادة الزاوية لأبى محمد بن محمد بن مصطفى بن محمد أخ أبي مدين(1853-1855) ليأتي بعده مقدم جديد الذي قاد زاوية القنادسة لأطول مدة قاربت نصف قرن وهو سيدي محمد بن عبد الله (1855-1900) الذي خلفه ابنه سيدي إبراهيم لمدة عشرين سنة (1900-1920).
انظر :
-Voinot L , "Confrérie et Zaouïas au Maroc", in Bulletin de la sociologie et de Géographie et d'archéologie d'Oran, T.58, mars, 1937, pp. 56-20 p.39-40.
- Drague G, op.cit. p.76.
[44]- تحت يدنا رسالة من الخليفة السلطاني مولاي الرشيد إلى السلطان مولاي الحسن بمناسبة الفيضانات المهولة التي عمت قصور تافيلالت عام 1302هـ. توجد نسخة من هذه الرسالة بمركز الدراسات والبحوث العلوية بالريصاني.              
[45]-العربي اكنينح، آثار التدخل الأجنبي على علاقة المخزن بالقبائل في القرن التاسع عشر : نموذج قبيلة بني مطير(آيت نطير)، ط1، فاس، 2004. ص353.
[46]-رسالة من السلطان الحسن الأول إلى خليفته في تافيلالت مولاي رشيد مؤرخة بتاريخ 4 ربيع الأول عام 1302هـ، الوثائق الملكية، سجل 19627، توجد نسخة منها بمركز الدراسات والبحوث العلوية بالريصاني.              
[47]- وثيقة بالمركز نفسه.
   - وثيقة بالمركز نفسه.
[48]- وصل مجموع النفقات التي صرفها المولى الحسن أثناء زيارته لتافيلالت عام 1893م إلى 150000 مثقال، انظر : محمد حمام : "قراءة في كتاب السفر إلى تافيلالت معية صاحب الجلالة مولاي الحسن، سنة 1893، لمؤلفه الدكتور فرناند ليناريس"جامعة مولاي علي الشريف الخريفية، (أعمال الدورة السابعة، الشطر الأول)، مركز الدراسات والبحوث العلوية، الريصاني، دجنبر، 1997، ص141-151.
[49]- Lmoubariki M, op.cit, p.103.
[50]-Ben Srhir Khalid,"L'impossible réforme, le programme de John Drummond Hay (1856-1886)", in Hesperis Tamuda, volume XXXIXX, fasc. 2, 2001, pp.71-84.
[51]-Kenbib M, Les Protégés, contribution à l'histoire contemporaine du Maroc, Publications de la Faculté des Lettres et Sciences Humaines, Rabat, 1996, pp.125-136.
[52] - محمد بوكبوط، م.س. ص25.
[53] - Lacroix  N.op.cit, p.20.
[54] -Ibid, p.21.
[55] -Idem.
[56] - Ibid, p.22.
[57]- انظر تفاصيل هذه الزيارة عند :
 Linares D. F. «Voyage au Tafilalet avec S.M le Sultan Moulay Hassan en 1893», in Bulletin de l'institut d'hygiène du Maroc, n° 3-4, 1932. pp.  93-116
[58]- Ibid. p.33.
[59]- من بين الذين تأثروا بالفكر الدرقاوي، وتركوا بصماتهم في تاريخ الجنوب الشرقي المغربي في نهاية بداية القرن 20، نجد كلا من الشيخ زين العابدين الكونتي، وسيدي محمد التالتفراوتي، ومولاي مصطفى الحنفي، ثم مولاي أحمد ولحسن السبعي السغروشني. حول هذه الزعامات القبلية، انظر : عبد الله استيتيتو دور تافيلالت في تنظيم العلاقات بين المجتمع القبلي والمخزن والمستعمر، (1873-1932) : دراسة في إشكالية العلاقات السياسية والوقائع الاجتماعية والتاريخية، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ساياس- فاس، 2007، صص 199-203.
[60]- حول الفقيه سيدي علي الهواري، انظر : الفقيه أحمد المهدي الناصري، نعت الغطريس الفسيس هيان بن بيان المنتمي إلى السوس، مخطوط تم تحقيقه ودراسته من قبل نصر الدين خالد الناصري الذي تقدم به لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، 2002.
[61]- نفسه، انظر أيضا، محمد المختار السوسي، المعسول، ج.16، الدار البيضاء، 1961.
[62]- حول المعارك التي خاضها رجال الزوايا ضد المستعمر جنوب شرق المغرب، ينظر أطروحتنا، م.س. ص ص 199-251، 274-280.
[63]-نفسه.

الأربعاء، 12 أغسطس 2015

الشيخ محمد بن ناصر الدرعي في ذاكرة المؤرخين

مْحَمَّد بنَّاصر الدّرعي
( في ميثاق الرابطة)

د. جمال بامي

باحث في التاريخ
     
كم هو رائع أن نستعيد ذكريات شخصيات فذة كان لها دور كبير في بناء شخصيتنا وكياننا، وإن هذا الاستدعاء لا يرجى منه “التبرك” والتأريخ النمطي بقدر ما يبحث من خلاله عن الإنسان والثقافة والقيم والنماذج التي صنعت أمجادنا وحضارتنا، ثم إن شبابنا اليوم في غمرة الضياع والفراغ يحتاج إلى “تذكير” بأن المغرب الثقافي عميق عمقا مدنا بعناصر شخصيتنا التاريخية التي وإن لم تكن آثارها السلوكية بادية اليوم لعوامل عديدة متداخلة؛ فإن وجودها بالقوة مسألة لا يشك فيها إلا من غاب عنه منطق فلسفة التاريخ والعمران البشري، وإن بحثنا عن الإنسان النموذج في الزمان والمكان المغربيين لكفيل بإعادة طرح سؤال الانتقال من القوة إلى الفعل بتوفيق من الله. وقد آثرت-ضمن هذا القصد- أن أُعرف بعلم من أعلام المغرب الكبار هو محمد بن ناصر الدرعي التامكروتي..

      لا خلاف حول أن سيدي محمد بناصر الدرعي يعتبر من الشخصيات الأكثر تأثيرا في مسار التصوف المغربي والثقافة المغربية بشكل عام؛ فلقد أسس هذا الرجل الفاضل مدرسة في العلم والصلاح وصل إشعاعها إلى كل جهات المغرب الكبير منطلقا من زاويته الشهيرة بتامكروت التي بلغ صداها المشرق العربي أيضا. ولعل من مميزات طريقة الشيخ محمد بن ناصر الدرعي هي الجمع القصدي بين العلم والعمل، ونشر قيم الصلاح والفضيلة بحثا عن القيم التي ترتقي بالإنسان. فمن هو هذا العالم الفاضل الذي اشتهر بتوسله الرائع المعروف بالدعاء الناصري الذي يسميه أهل فاس سيف بن ناصر؟

      هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن ناصر، ولد رحمه الله يوم الجمعة في شهر رمضان عام1011هـ/1602م بأغلان بواحة “ترناتة” (منطقة زاكورة) التي توجد شمال واحة “فزواطة” التي تنتمي إليها زاوية تامكروت، ونشأ في كنف والده سيدي محمد بن أحمد الدرعي الذي لقنه دروس العلم والصلاح الأولى، وكانت أمه صالحة قانتة.. ثم انتقل إلى مسجد قصر “تسركات” على الضفة الغربية لوادي درعة بالواحة نفسها، وتلقى العلم على يد شيخ الجماعة سيدي علي بن يوسف الدرعي التمازيري، فلازم مجالسه العلمية حتى تخرج فقيها عالما مشاركا في علوم العربية والتفسير والحديث والتصوف والكلام.

      انتقل سيدي محمد بن ناصر بعد ذلك إلى منطقة وادي دادس وأصبح إماما راتبا بقصر “الجرفة” إلا أنه عاد إلى بلدته فترتب إماما بمسجد “أغلان” وتصدر لتدريس العلم بزاوية أبيه.

      قال أحمد بن يعقوب الولالي في “مباحث الأنوار في مناقب بعض الأخيار” (تحقيق عبد العزيز بوعصاب، 1999): “وكثر عنه الأخذ شرقا وغربا وحج مرتين، وكان يواظب على قراءة الحديث (…) وكان شديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يخاف في الله لومة لائم ولا يرى واقفا بباب ملك من الملوك ويتولى صلاة الجمعة بمسجده ولم يخطب لملك قط”..

      وقال أحمد بن خالد الناصري في “طلعة المشتري”: “لولا ثلاثة لانقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن التي ظهرت فيه وهم سيدي محمد بن ناصر في درعة وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي في الدلاء وسيدي عبد القادر الفاسي”…

      وقال أبو سالم العياشي -تلميذ محمد بن ناصر الدرعي- في فهرسته : “شيخنا الحافظ الخاشع الزاهد ألين أهل زمانه عطفا وأشدهم لله خوفا الموفق في السكون والحركة المقرونة أحواله بالبر والبركة كان رضي الله عنه شديد الإتباع للسنة في سائر أحواله(…) سلك في ذلك سبيل الشيخ المرجاني وابن أبي جمرة وابن الحاج ونظائرهم حضرت مجالسه في كثير من العلوم فقها وتفسيرا ونحوا وحديثا وتصوفا، كان عديم النظير في العربية يحفظ “التسهيل” عن ظهر قلب وجل استفادته في العلوم الظاهرة عن شيخه سيدي علي بن يوسف الدرعي وأجاز له سيدي محمد بن سيدي سعيد المراكشي، ولقي شيخنا أبا بكر السجستاني في رحلته إلى المشرق واستفاد منه (…) وأما في طريق القوم فعن الشيخ سيدي عبد الله بن حساين الدرعي عن سيدي أحمد بن علي عن سيدي الغازي تلقيت منه الذكر وأجاز لي سائر مروياته..”.

      وقال أبوعلي اليوسي في فهرسته: “قرأت عليه -أي على شيخه محمد بن ناصر الدرعي- التسهيل وجملة من مختصر خليل والتفسير والمدخل لابن الحاج والإحياء للغزالي وجزء من البخاري والشفا وطبقات الشعراني”…

      وقال الإمام أبو علي الحسين بن ناصر الدرعي أخو سيدي محمد بن ناصر الدرعي في “فهرسته”: “ختمت على الشيخ الأخ الشقيق شمس المعارف سيدي محمد بن ناصر مختصر خليل بن إسحاق ست مرات ثلاثا بأغلان عام ثلاثة وخمسين وأربعة وخمسين -يعني بعد الألف- وختمة فيما بين مصر وطرابلس الغرب وبسكرة النخل عام سبعين وختمتين فيما بين ذلك أيضا عام ستة وسبعين وسبعة وسبعين والرسالة مرة والتسهيل لابن مالك خمس مرات وشرحه لابن عقيل مرتين والأول من المرادي عليه مرة وكافية ابن الحاجب وشرحها للرضي الشريف مرة واليدوني مرة -وهي أرجوزة محاذية لمغني ابن هشام- والكراريس مرات – وهي الأراجيز التي تتناول الرسم القرآني وضبطه وأداءه، والخزرجية ثلاث مرات وابن عطية على الفرائض مرتين والقلصادي مرتين وعلى الشيخ أيضا الصغرى للسنوسي وشرحه عليها ثلاث مرات والجزائرية وشرح السنوسي عليها مرتين والحوضي، وشرح السنوسي عليه مرتين والكافي في علم القوافي مرة والمقدمة، وشرح المؤلف عليها ثلاث مرات والألفية لابن مالك ثلاث مرات والأجرومية والمكودي عليها ثلاث مرات وابن عباد على الحِكم مرتين وبعض الإحياء للغزالي أخذته عنه وسلاح المؤمن وبعض الترغيب والترهيب (…) وختمت عليه البخاري زهاء ست مرات ومسلما مرة، وسمعت منه مواضع من إيضاح أبي علي الفارسي ومن الجمل للزجاج ومن كتاب سيبويه ومفصل الزمخشري وقرأت عليه جل “جمع الجوامع” (…) وبعض الجامع الصغير وبعض الجامع الكبير (…) وكفاية المتحفظ نحو ست مرات والفصيح وموطأ مالك بن المرحل وتهذيب البرادعي إلى النكاح في غالب ظني وبانت سعاد ولامية العرب..”؛  ومنه نفهم غزارة المواد التي كان يدرسها محمد بن ناصر وموسوعيته وعلو شأنه، أضف إلى هذا أن هذه المعلومات الوفيرة التي قدمها لنا الحسين بن ناصر الدرعي، والحسن اليوسي، وأبي سالم العياشي، وكلهم أعمدة في العلم، تعطينا فكرة صادقة عن الحياة العلمية والفكرية في عهد محمد بن ناصر، وهي فترة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث، عرفت تأسيسا جديدا للحركة العلمية بعد ركود بسبب الاضطرابات السياسية التي رافقت نهاية الدولة السعدية، وقد سبق أن أشرت في مقالتي حول الإمام محمد بن سعيد المرغيثي (العدد السابق من جريدة ميثاق الرابطة) أن الزاوية الدلائية قامت بدور جبار في الحفاظ على العلم متوهجا، ولا شك أن العلاقة بين هذه الزاوية والمسار الذي سيتخذه العلامة محمد بن ناصر واضح وجلي على الرغم من اختلاف الأبعاد السياسية، ويكفي أن نعرف أن العلامة اليوسي وأهو أحد أقطاب الزاوية الدلائية هو أشهر تلاميذ محمد بن ناصر الدرعي على الإطلاق. المسألة إذن مسار وتراكم وسلاسل ممتدة لنشر العلم والصلاح وتشييد العمران بتوفيق من الله …   لما بلغ محمد بناصر الدرعي من العلم والدين ما بلغ تاقت همته إلى البحث عن شيخ التربية، فبحث عنه في قرى وادي درعة، ثم أخبره صهره محمد بن عبد القادر الحربيلي بأنه رأى بتامكروت رجلين صالحين عليهما سمات الخير والصلاح، فقدم إلى تمكروت وكان سنه يومئذ نحو 27 سنة فوافاهما وقد حانت صلاة المغرب فصلى معهما (….) فخلا بن ناصر بسيدي أحمد بن إبراهيم وقال له إني أريد أن تذهب معي إلى الشيخ عبد الله بن حساين (هو غير عبد الله بن حساين الأمغاري التامصلوحتي) ليلقنني الورد الشاذلي فذهب معه إلى الشيخ عبد الله بن حساين فلقنه الذكر، وأعجب به فرغب في معاشرته وتعليمه العلم في زاويتهما فلبى لهما رغبتهما، واستقر بالزاوية بعد أن جلب والده وأخوه سيدي حساين من أغلان، وكان ذالك سنة 1040هـ/1631م.

      ومعلوم أن زاوية تامكروت تأسست سنة 983هـ من طرف أبي حفص عمرو بن أحمد الأنصاري حفيد الحاج إبراهيم القادم من الشرق ونزيل زاوية “سيدي الناس” التي تقع على مقربة من بلدة تامكروت، وقد قامت زاوية تامكروت بدور رئيسي في التعاون الثقافي والديني بين شمال إفريقيا والمشرق العربي بفضل الرحلات العلمية والدينية والثقافية التي قام بها علماؤها ضمن مشروع رسالي واضح المعالم..

      في سنة 1045هـ/1636م توفي الشيخ عبد الله بن حساين الدرعي وتولى أمر الزاوية بعده سيدي أحمد بن إبراهيم، ولما توفي هذا الأخير رحمه الله مقتولا في 11 جمادى الأولى سنة 1052هـ/1642م انتقل أمر الزاوية إلى سيدي محمد بناصر بوصية منه، فتزوج السيدة حفصة بنت عبد الله الأنصارية -زوجة سيدي أحمد بن إبراهيم سنة 1055هـ/1645م-، فولدت له الشيخ الإمام أحمد بن محمد بناصر الملقب بالخليفة، صاحب الرحلة الناصرية الشهيرة.

      والجدير بالذكر أن تقوية الدور الإشعاعي لزاوية تامكروت تم بفضل الأعمال التي قام بها أحمد بن إبراهيم الأنصاري الذي تولى شؤون الزاوية بين 1045 و 1052 هـ، خاصة ما يتعلق ببناء المسجد، الذي عرف استقبال طلاب العلم الذين تكلفت الزاوية بنفقاتهم  بفضل عائدات العقارات التي حبسها الشيخ أحمد بن إبراهيم الأنصاري لفائدة الزاوية، كل هذا يبرز الركائز الأساسية التي قامت عليها زاوية تامكروت بفضل الشيخ الفاضل أحمد بن إبراهيم الأنصاري، أما ترسيخ المكانة العلمية للزاوية فقد تحقق بفضل العمل الكبير الذي قام به محمد بن ناصر الدرعي..

      شرع محمد بن ناصر الدرعي في تعليم العلوم بزاوية تامكروت كما كان حاله في زاويته في بلدة أغلان حيث أخذ عنه العديد من كبار علماء عصره العصر مثل أبي الحسن علي اليوسي أبي سالم العياشي والقاضي عبد الملك التاجموعتي والفقيه عبد الله بن محمد الهشتوكي وأبي الحسن علي المراكشي وابن عبد اللطيف الفيلالي وغيرهم كثير، ويكفي أن نستشف من عبقريتهم وعمق علمهم وأدبهم بعض ملامح شخصية شيخهم بن ناصر..

      اشتهر محمد بن ناصر أيضا بجمع الكتب واقتنائها نسخا وشراء، فنسخ بخط يده عدة كتب منها “شرح المراد على التسهيل” وبعض كتاب “العقد الفريد” لابن عبد ربه، واهتم بتصحيح الكتب ومقابلتها وكتب الفوائد على هوامشها فداع صيته وعلا شأنه وضمن مكانة بين عظماء هذا البلد الكريم.. وشهرة خزانة زاوية تامكروت لا تخفى على الباحثين والمهتمين شرقا وغربا..

      قال العلامة سيدي محمد المكي الناصري في كتابه “الدرر المرصعة في أخبار أعيان درعة” (تقديم وتحقيق محمد الحبيب النوحي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، رسالة دبلوم الدراسات العليا 1988م): كان الشيخ رضي الله عنه جوادا فياضا يقسم على جيرانه وساكني زاويته بل وغيرهم من أهل درعة ممن لم يسكن الزاوية الأضحية كل عيد والصوف كل عام والسمن والزيت كذلك ولا يدخر عنهم شيئا حتى قال بعض ولده يوما وقد فرق سمنا كثيرا جيء إليه على الجيران والفقراء والمساكين: قد فرقت هذا السمن كله فما تركت لنا؟ فأجابه: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين” الآية.

      يتصل نسب محمد بن ناصر الدرعي في الطريقة الشاذلية والزروقية، كما يتصل بالقادرية عن طريق أبي مدين الغوث. قال الشيخ الداهية أحمد بن عبد القادر التستاوتي في “نزهة الإخوان”: وجد بخط الإمام الأستاذ محمد بن ناصر رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما يقول كاتبه عبد ربه تعالى محمد بناصر الدرعي كان الله له أخذنا طريقة التصوف عن شيخنا سيدي عبد الله بن حساين الرقي عن شيخه أبي العباس أحمد بن علي الدرعي عن شيخه سيدي أبي القاسم الغازي الدرعي أهلا السجلماسي دارا عن شيخه أبي الحسن علي بن عبد الله السجلماسي عن شيخه أبي العباس أحمد بن يوسف الملياني الراشدي عن شيخه أبي العباس أحمد زروق الفاسي عن شيخه أبي العباس أحمد بن عقبة الحضرمي عن شيخه أبي الحسن عن الفرابي عن شيخه أبي العباس تاج الدين أحمد بن عطاء الله الإسكندري عن شيخه أبي العباس أحمد المرسي عن شيخه أبي الحسن الشاذلي عن شيخه أبي محمد عبد السلام بن مشيش”..

      قال أحمد الولالي في “مباحث الأنوار في مناقب بعض الأخيار” (كلية الآداب والعلوم الإنسانية، 1999) تحقيق عبد العزيز بوعصاب (ص: 299 وما بعدها): “ومنهم إلا أني لم ألقه ولكن كاتبته فكتب إلي غير ما مرة شيخ علماء وقته وقدوتهم في الدين، ورع الزمان وزاهد الأوان، الشيخ محمد بن ناصر الدرعي. كان رضي الله عنه أولا مشتغلا بالعلم ثم صاحب الشيخ عبد الله بن حساين الدرعي ثم صاحب بعده تلميذه الشيخ أحمد بن إبراهيم. فروي أن الشيخ عبد الله بن حساين الدرعي قال أن نجعل له ما يظهر به فوق أقرانه، فكان أمره كذلك (…) ومن طلب منه الصحبة لا يقر له بأنه شيخه بل يقول:  أنا أخوك والشيخ هو السيد الغازي”. والسيد الغازي هذا هو أبو القاسم بن محمد بن عمرو بن أحمد السوسي، الملقب بالغازي، شيخ صوفي ذائع الصيت يتصل سنده في الطريقة بأحمد زروق، وعنه أخذ شيوخ الناصريين. ازداد بدرعة واستقر بتبوبكرت من سجلماسة التي أسس بها زاويته حوالي 933هـ توفي سنة 981هـ (الهامش 541 من مباحث الأنوار، تحقيق عبد العزيز بوعصاب).

      يضيف أحمد الولالي في “مباحث الأنوار” (ص: 301): “وقد كنت كتبت إليه رسالة مرتين، وأبلغهما له شيخنا العلامة أبو علي بن مسعود اليوسي، وطلبت منه الدعاء فيهما، فدعا لي في أحدهما بقوله: بلغك الله تعالى من خير الدنيا والآخرة فوق الوهم والظن، وفي الأخرى بقوله: جمع الله تعالى لك من خير الدارين ما هو أهله، وهذا من جوامع كلمته التي أوتيها من بركة ترك التكلف وإتباع السنة؛ استجاب الله تعالى له فينا ولو لم نكن نحن أهلا. وله “تآليف في الصلاة على النبي”، وممن مدحه العلامة أبو علي اليوسي في “قصيدة” من خمسمائة بيت، مشتملة على أساليب من المعاني أبدع فيها وشرحها في مجلدة، ولم نر لها نظيرا.. ومطلع القصيدة الدالية هو:

          عرّج بمُنعرَج الهِضاب المُوَرّد            بين الِّلصاب وبين ذات الأرمَد

      وقد نشب خلاف بين المولى الرشيد العلوي ومحمد بن ناصر الدرعي الذي أصر على حفظ استقلاليته إزاء الدولة الجديدة، إلا أن الأمر سرعان ما تغير مع السلطان المولى إسماعيل الذي استقدم محمد بن ناصر الدرعي إلى مدينة مكناس سنة  1107هـ/ 1696م في خبر مشهور..

      ترجم لابن الناصر الدرعي كلا من اليوسي في “المحاضرات” واليفراني في “الصفوة”، والحضيكي في “طبقاته” والقادري في “النشر” والتقاط الدرر”، وأحمد الناصري في “طلعة المشتري” ومحمد مخلوف في “شجرة النور الزكية” والعلامة محمد حجي في “الحركة الفكرية على عهد السعديين”…

      كانت وفاة بن ناصر يوم 16 صفر 1085هـ/1676م وهو ابن أربع وسبعين سنة، ودفن بضريحه المعروف بروضة الأشياخ. وقد زرت زاويته مرارا واستمتعت واستفدت، رحمه الله وجازاه عن المغرب والإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه..
********************************************************************************
نقلا عن:
http://www.mithaqarrabita.ma

الزاوية الناصرية والنسب الجعفري الزينبي المغربي وعلاقته بقبائل الجعافرة بجمهورية مصر ..

الزاوية الناصرية والنسب الجعفري الزينبي المغربي   وعلاقته بقبيلة الجعافرة بجمهورية مصر العربية ..